Atwasat

بلد العميان

عبد السلام الزغيبي الأحد 27 سبتمبر 2020, 10:54 صباحا
عبد السلام الزغيبي

"أعمى يقود عُميانا". هو عنوان اللوحة الفنية الخالدة التي رسمها الفنان الهولندي البلجيكي "بيتر بروجيل" عام 1568 وهي محفوظة في المتحف الوطني بمدينة نابولي. يعد بريغل من أعظم مصوري المناظر الطبيعية، وموضوعها مستمدّ من عبارة وردت في الإنجيل تقول: إذا كان من يقود الأعمى أعمى مثله، فسيقعان كلاهما في الحفرة".

في اللوحة يرسم "بروجيل" ستّة رجال عُميان وهم يشقّون طريقا متعرّجا عبر طبيعة ذابلة تقع على أطرافها كنيسة ريفية ويجري وسطها نهر صغير. الدليل الأعمى يسقط في الحفرة مع أشيائه. بينما يتعثّر به الأعمى الثاني. ويبدو الثالث على وشك اللحاق برفيقيه. أما الرجال الرابع والخامس والسادس فلا يعرفون بعد ما الذي يحدث. غير أن سقوطهم في الحفرة، هم أيضا، يبدو أمرا محتّما في النهاية.

الكاتب والشاعر أريش لوتس الذي فقد بصره في الحرب العالمية الأولى نشر قصيدة في ديوانه "والليل يسطع كالنهار" مستوحاة من لوحة عميان بروجيل:
الجرس يجلجل في أرجاء البيت
والرعب يرج فؤاد الليل الساكن
وعلى مضض يجفو النوم جفوني
في الحلم رأيت الصورة
آخر صور الرسام بروجيل
نحو الموت الداهم تتعثر أقدام رجال ستة
الكريات بتجويف الأعين جوفاء
بغير بريق
وشعاع الحي كذلك مطفأ
والكل تشبث بقضيب وتحسس وجهة دربه
سقطوا في قبضة قدر أعمى
واندفعوا في الليل الأعمى.

و كتب هربرت جورج ويلز قصة قصيرة بعنوان "بلد العميان" وقد نشرت لأول مرة في عدد أبريل 1904 من مجلة سترا ند، وأدرج عام 1911 في مجموعة من القصص القصيرة لويلز وقصص أخرى. وهي إحدى أشهر قصص ويلز القصيرة، وتحتل مكانة بارزة في الأدب الذي يتعامل مع العمى.

يحكى الأديب الإنكليزيّ في قصته أرض العميان، عن مجموعة من المهاجرين من بيرو فروا من طغيان الأسبان ثم حدثت انهيارات صخرية في جبال الإ نديز فعزلت هؤلاء القوم في واد غامض. انتشر بينهم نوع غامض من التهاب العيون أصابهم جميعا بالعمى وقد فسروا ذلك بانتشار الخطايا بينهم. هكذا لم يزر أحد هؤلاء القوم ولم يغادروا واديهم قط لكنهم ورثوا أبناءهم العمى جيلا بعد جيل. هنا يظهر بطل قصتنا.. (نيونز) وهو مستكشف وخبير في تسلق الجبال تسلق جبال الانديز مع مجموعة من البريطانيين وفي الليل انزلقت قدمه فسقط من أعلي .. سقط مسافة شاسعة بحيث لم يعودوا يرون الوادي الذي سقط فيه ولم يعرفوا أنه وادي العميان الأسطوري.

الرجل المبصر، عاش بينهم، وأحب فتاة منهم وأراد أن يتزوجها، لكن اشترطوا عليه أن يفقد بصره ويصبح مثلهم، وحاولوا أن يقنعوه أن البصر شيء لا قيمة له، لكنه رفض تنفيذ هذا الشرط من أجل الزواج بالفتاة، وهرب منهم وأتجه إلى حاجز الجبال حيث توجد مدخنة حجرية تتجه لأعلي.. وقرر أن يتسلق. وعندما غربت الشمس كان بعيدا جدا عن بلد العميان...

وفي عام 1995، كتب الكاتب والصّحفيّ والمسرحيّ البرتغاليّ جوزيه ساراماجو، "رواية العمى"، وهي رواية تختصر قضايا كثيرة في مجتمعاتنا البشرية تحكى عن قصة تفشى وباء غير معلوم الأسباب، يصيب بالعمى سكان مدينة مجهولة الاسم، ونتابع في الرواية مأساة مجموعة من الأشخاص الذين كانوا أوائل المصابين بالوباء وتركز الرواية بشكل خاص على "زوجة الطبيب"، حيث إن العديد من مرضى الطبيب وأشخاصا آخرين يتم احتجازهم سوياً بمحض الصدفة، وبعد قضائهم فترة طويلة وصعبة في الحجر الصحي، يترابط أفراد المجموعة ويصبحون كعائلة واحدة تقاوم وتدافع وتحاول النجاة ويخدمهم الحظ بوجود زوجة الطبيب التحى لم يصبها الوباء ومازالت قادرة على الرؤية في مجموعتهم.

وبالطبع فإن كون هذا الوباء ظهر فجأة وعدم معرفة سبب حدوثه وطبيعة العمى كل هذه الأمور تؤدى لانتشار ذعر واسع النطاق، ويُكشف النقاب عن النظام الاجتماعي سريعاً عندما تحاول الجهات الحكومية أن تُسيطر على الأوضاع وتحتوى العدوى عن طريق اتخاذ تدابير قمعية بعد أن يبدأ الناس في الاقتتال فيما بينهم، للحصول على الحد الأدنى من الغذاء والدواء.

تتحدث الرواية عن العمى الفكري حيث قالت زوجة الطبيب في نهاية الرواية "لا أعتقد أننا عمينا بل أعتقد أننا عميان يرون، بشر عميان يستطيعون أن يروا لكنهم لا يرون" في إشارة أيضاً إلى أن الأخلاق البشرية والمبادئ الإنسانية هشة أمام العوز البشري.

إذ أسقطنا كل هذه الأعمال الفنية من لوحة وقصة ورواية، على الوضع السياسي والاجتماعي الذي نعيشه اليوم في ليبيا، نرى أن جهل الناس وعجزها هو الذي حولهم إلى مخلوقات حانقة مذعورة عاجزة. يقرر الغير مصيرها، رغم أنها تعرف أنها سائرة لا محالة نحو طريق مسدود، ومع هذا لا تقاوم مصيرها المحتوم.. والتاريخ لا يرحم دائما العاجزين...

إن مصير الشعب الليبي سيكون دون محالة كمصير الرجال الستة في لوحة (أعمى يقود عميانا) إذا استمروا في لعب دور الضحية وهم في حالة عجز أمام من يلعب بمصيرهم، سيكون مثلما هو مصير عابر السبيل في شطر قصيدة بشار بن برد،" قد ضَل من كانت العميان تهديه"، وهذا الشطر لبيت من قصيدة بشار بن برد، حيث تقول القصة إن عابراً سأل بشار الأعمى عن عنوان معين، فأخذ بشار يشرح له الطريق للوصول إلى هذا العنوان، لكن الغريب لم يستوعب المكان، فما كان من بشار ألا أن أخذ بيده وقاده في الطرقات وهو يردد هذا البيت: أعمى يقود بَصِيرا لا أبا لكم *** قد ضَل من كانت العميان تهديه. وهو البيت الذي ينطبق على من يقودوننا في ليبيا في هذه الأيام الحرجة.