Atwasat

الطريق تُصنع لا محالة

سالم العوكلي الثلاثاء 22 سبتمبر 2020, 01:43 مساء
سالم العوكلي

في افتتاحية العدد 109 الصادر بتاريخ 17 يونيو 2013 ، من جريدة ميادين، التي كتبها رئيس التحرير أحمد الفيتوري، يَذكر أنه كان في تركيا حين اندلعت ثورة الياسمين التونسية، وقبلها بأسبوعين كان في تونس، حيث ــ كما يقول: "لا يتوقع أحد أي شيء، وفي البلدين كنت أردد كالببغاء موت الإنسان وانتهاء العقل العربي. كان الجميع يروج لنهاية التاريخ، الساعة يروج المرتجفون للخريف العربي".

ما يجعلني أعود لهذه الافتتاحية، هو الربط المبكر بين الظاهرتين في تركيا وتونس، والقراءة الحصيفة للبريق التركي الذي كان يشكل نموذجا مبهرا في المنطقة لغوغائي الفكر في العالمين، الأول والثالث. القوى الكبرى المشغولة منذ عقود بهندسة الشرق الأوسط ومحالات ترويض الوحش الإسلامي الذي بدأ يكشر عن غلوّه الدموي، رأت في النموذج التركي الإسلاموي بقناعه العلماني فكرة لاستيعاب هذه الوحشية عبر التيار الأخواني الذي وصل للسلطة، بينما في العالم الثالث كان التنظيم الدولي الذي بدأ يروق للغرب كبديل للراديكالية القومية يرى في التجربة الإسلاموية في تركيا النموذج المحتذى بعد أن أفل نجم الثورة الإيرانية التي حاولوا تقليدها.

يتطرق الفيتوري إلى انتفاضة ميدان تقاسيم في اسطنبول التي يعتبرها "جاءت كما البغتة أو كما ثورة الياسمين التي تتخبط حتى ساعة خروجها من الكهف، وأولئك المتنعمون بالظلام يرفضون كل الحقائق حتى الطبيعية منها، فهم ينكرون مثلا أن الفجر ينبثق بتؤدة، وفي لحظة انبثاقه تنتشر العتمة، وما بين الظلام والضوء ساعة لا يُتبين فيها الخيط الأسود من الأبيض، أي لا ترى فيها الطريق لأن الطريق تصنع لا محالة.".

يشكل عاما 2012 و 2013 مركز كثافة تلك العتمة التي أعقبت بزوغ الربيع العربي، ولأن الثورات كما الرياح الشديدة التي تمحو أثر الدروب في الصحراء، يتوه الجميع أو يلفون حول أنفسهم باحثين عن طريق يخرجهم من المتاهة، ولا سبيل للخروج سوى أن تصنع طريقك الجديدة بنفسك، وهذا ما لم يستوعبه المستعجلون الذين توقعوا نتائج مباشرة ومذهلة لهذا الربيع الذي كنس الطرق القديمة. فمن احتشدوا تمردا على هذه النظم العتيدة في أيام الربيع العربي ما كانوا يعرفون أين سيفضي هذا الربيع، ولكن يعرفون إلى أين لا يفضي.

ثمة تشابه تاريخي آني (في وقت انتفاضة تقاسيم) بين النموذجين التركي والتونسي، فهما انبثقا من أبويين أرسيا قيم العلمانية في الدولتين وفي قطاع واسع من مجتمعهما، وهما يتعرضان لمحاولة انقضاض تيار إسلاموي على كل الإرث العلماني، ليستفيدا من منجزه الحضاري كنوع من الدعاية من جانب، وليقوضا على مهل هذا المنجز ويحاكيا تجربتهما في الانفراد بالسلطة من جانب آخر، خصوصا فيما يخص فصل الدين المذكر عن الدولة الأنثى، وتقويض البنى الأبوية للمجتمع بتشريعات تضمن حقوق المرأة وتحفزها للمشاركة بجدارة. يتفطن الفيتوري بعينيه اللتين رأى بهما المشهدين وليس بالوعي فقط لهذا التشابه، حين كانت العيون تعميها أضواء التجارب الساطعة لمن لا يرون العتمة المتربصة خلف هذا السطوع الشبيهة بالعتمة التي تتسرب خيوطها في انبلاج الفجر الأول. فهو كمثقف كبير يدرك أصل الديكتاتورية مهما حاولت التنكر في ملابس ديمقراطية فضفاضة، وهو كسجين رأي سابق تأملها جيدا في جدران الزنزانة التي قبع فيها عقدا من عمره، معزولا عن كل ما يخطط له من استبداد شامل خارج هذه الجدران حينما كان عقد السبعينيات وبداية الثمانينيات مرحلة إبهار الشارع بالشعارات وبالحديث عن الديمقراطية لدرجة تعهيرها، وتكريس الطاعة بالمال وبالمشاريع الضخمة التي دون جدوى اقتصادية والتي آلت كلها إلى حطام. لم ينطلِ هذا الخداع على الفيتوري في اسطنبول التي رأى فيها الليبيون نموذجا للرفاه والبريق من خلال ما تابعوه من مسلسلات تركية سياحية، مثلما جعلهم هذا الخداع البصري يرون في دبي حلما لهم بعد سقوط النظام متناسين كل ما صنع فبراير من مطالب متعلقة بالحرية والديمقراطية الكرامة الإنسانية. لم ينطل هذا الخداع البصري على الفيتوري الذي يفهم جيدا ألعاب السحرة فكتب: "أردوجان كان يبدو أنه الطريق للعدالة والتنمية ولهذا تسابق الأخوان لاستعارة حتى التسمية، ولولا الخجل لسمى البعض اسمه أردوجان تيمنا ورغبة في اختصار كل شيء حتى لا شيء، ولهذا أيضا تم تقنيع كل شيء خاصة الديمقراطية البضاعة الغربية بامتياز التي قُبِلت شكلا ورُفِضت موضوعا عند النموذج وعند من صاغ نفسه على منواله. فالخروج عن أتاتورك خروج عن الشكل، أي خروج منه إليه في المحصلة، ولهذا تتلبس روح بورقيبة روح الغنوشي في أهم ما يميزها أي الانفراد بالسلطة وسن دستور هذا الانفراد". كُتب هذا الرأي قبل ما أثاره ارتباط الغنوشي بأردوجان بسنوات، غير أن الإيجابي في تجربتي أتاتورك وبورقيبة أنهما لم يفرغا الدولة من أنوية وجذور المنظمات المدنية التي شكلت في البليدين قاعدة لمعارضة قوية، نراها الآن في تركيا وتونس، حيث تحتشد النخب الواعية والمثقفون في وجه هذه التوجهات صوب الدولة الثيوقراطية، بعكس ما يحدث في ليبيا مثلا حيث معارضة هذا التيار أخذت شكلا جهويا بدل أن تأخذ بعدها الثقافي والفكري، وانفرط عقد المثقفين بين منحاز للتيار الإسلاموي وبين محايد أو مرتبك، وحين أتحدث عن المثقفين الذين كانوا معي أعضاء في رابطة الأدباء والكتاب فسأكتشف صمت أغلبيتهم الغالبة تجاه الدولة الدينية التي يجهز لها في ليبيا بدعم قوى إقليمية ودولية، بينما نرى كيف يوجه المثقفون والنخب في تونس هذا التوجه، وربما الفارق كون ليبيا لم تمر بمرحلة أتاتوركية أو بورقيبية، وكون العلمانية كأطروحة في عالم السياسة، لا تختلف عن اكتشاف الذرة في الفيزياء أو الخلية في علم البيولوجيا، لم تكن جزءا من عقيدة الكثير من المثقفين الليبيين، بل إن البعض يهش عن كتاباته هذه الشبهة، وأتفهم خوف البعض من حكم العسكر كبديل، لكن المنطلق هنا ثقافي وجذري فيما يخص الدولة الدينية التي كرست حتى في مسودة الدستور الذي تجاهل الحديث عنه معظم مثقفينا.

في الشهور الأولى لفبراير حيث كنت مقيما في بيت الفيتوري الذي تحول إلى مقر للجريدة ــ والذي تحول إلى ملاذ شكوى يتردد عليه بعض من استشعروا مبكرا خطر تحركات الأخوان في فراغات الثورة الليبية، والذين لم ينضموا للحراك بجدية إلا بعد ضرب الرتل على مشارف بنغازي ــ كان يزورنا مرارا المرحوم عبد السلام المسماري غاضبا وهو يرى عن كثب كيف أن الأخوان بنقودهم يسرقون هذا الحراك، وكيف سرقوا منهم ائتلاف شباب فبراير في ميدان المحكمة عندما أسسوا منظمة وهمية سموها (أثال) حاولوا تفريغ كل المنظمات المدنية فيها ونجحوا إلى حد كبير، وكيف كان يتردد علينا د. فتحي البعجة مستفزا من محاولات هذا التيار التغلغل في قلب المجلس الوطني الانتقالي والانحراف به، ونجحوا إلى حد كبير.

بدأت سياسة التمكين وسرقة أحلام الناس من هناك ومازالت على قدم وساق حتى وصلت إلى هذه الحشود التي تصل مطارات وموانئ ليبيا من الإرهابيين الذين فقدوا الأمل في إسقاط النظام السوري، والذين دعمتهم تركيا حتى أصبحوا عبئا عليها بعد فشل إسقاط النظام السوري، وهم لا ملاذ لهم سوى تركيا يستعيد الجيش السوري والروس كل أرض سوريا، وفكرة نقلهم إلى ليبيا من أجل ضرب عصفورين أو أكثر بحجر، للتخلص من عبئهم ومساندة جماعة الأخوان التابعة لأردوجان، ولابتزاز أوروبا بهم حين يتكدسون على الشواطئ الجنوبية المقابلة لهم.

ومازلنا في هذه المتاهة، عيوننا مصوبة للمجتمع الدولي كي يشق لنا طريقا للخروج من الأزمة، ولكن كما قال الفيتوري: "الطريق تُصنع لا محالة". ولا أحد غيرنا يصنعها، ولا تتوقع من صائد جوائز أن يرسم لك طريق الخروج الآمن.