Atwasat

ليت التاريخ يتحاشى ما لا نرضاه

سالم العوكلي الثلاثاء 15 سبتمبر 2020, 11:43 صباحا
سالم العوكلي

نشرت مقالة تحت عنوان "المجتمع المدني والعلمانية: لابد من الجلوس خلف المقود" في مجلة عراجين لصاحبها ورئيس تحريرها الكاتب إدريس المسماري (العدد الرابع، يناير 2006) أشرت فيها إلى أنه "لا يمكن أن توجد ديمقراطية إلا في ظل مجتمع مدني، ولا يمكن أن يوجد مجتمع مدني إلا في ظل دولة علمانية". وعلى غرار هذا التقرير الموقن، لم تخل المقالة من التأكيدات الجزمية المخلة بجوهر المعرفة، غير أن مسحة اليقين فيها جاءت في سياق الرد أو سحب البساط من تحت أطروحة القذافي عن الديمقراطية المباشرة، ثم أطروحة سيف الإسلام الابن فيما بعد عن ديمقراطيته البديلة، ورغم الاختلاف بينهما، إلا أن شعار القذافي لديمقراطيته كان (القرآن شريعة المجتمع) وشعار سيف لديمقراطيته كان (الإسلام خط أحمر)، وكنت ومازلت أزدري أي شعار ثيوقراطي للنظم السياسية المرتبطة بشدة بما يحدث فوق الأرض، وهذا البعد الثيوقراطي ما جعلني أكتب أكثر من مرة منتقدا مسودة مشروع الدستور الأخير، لما تزخر به من مواد حاكمة ومحصنة عن هوية الدولة الدينية، وعن الشريعة كمصدر وحيد للتشريع. ما أقصده من ذكر هذا التوجه أني عبر تلك المقالة (التكتيكية) المليئة بالعبارات الجزمية كنت أحاول تقويض هاتين الأطروحتين وتفريغهما من محتواهما عبر ربطي العضوي بين الديمقراطية والعلمانية (مازال هذا رأيي الذي ما عدت أكتبه بلغة جزمية)، لكن ما فاجأني الردود العنيفة التي توالت على هذه المقالة في بعض مواقع المعارضة آنذاك (خصوصا التابعة لجماعة الأخوان المسلمين) والتي هاجمت المقالة بشراسة لدرجة وصفها بالتجديف باعتبار العلمانية في نظرهم نوعا من الكفر، في الوقت الذي لم تظهر أي ردود من الداخل أو على الأقل من جريدة الزحف الأخضر حيث توقعت، وكأن المعارضة الإسلاموية كانت بوعي أو دونه تدافع عن النموذج الديمقراطي في ليبيا الذي يشيد فوق شعارات دينية صارخة.

ومع الفارق بالتأكيد، ينقلني هذا إلى مقالتي عن "التفكك ولو لم نحبه" التي ناقشها الصديق عمر الككلي في مقالته "التفكك لا نرضاه" المنشورة ببوابة الوسط بتاريخ 6 سبتمبر 2020، وسبق أن تحدثت أن ما يكتب في هذا الحيز الصحفي السيّار ليس بحوثا علمية ولا مقالات فكرية، لكنها مقالات صحفية تتفاعل مع الوقائع أو مع ما يقال في هذه المرحلة المضطربة، والتكتيك، أو مقتضى المناسبة، في مثل هذه المقالات إحدى لعب التورط في الجدال السياسي. وسأحاول هنا أن أناقش مقالة الصديق عمر بصورة عامة دون التطرق للتفاصيل التي يكمن فيها عادة سوء الفهم، وأحيانا حسنه.

ذهب الجيش إلى مشارف طرابلس تحت شعار تحقيق الوحدة الوطنية كشعار مقدس من المفترض أن يبيح كل شيء، وحين تراجع الجيش بعد تدخل إحدى دول حلف الناتو المباشر، صرح الطرف الآخر إنه لن يتوقف إلا عند حدود ليبيا الشرقية من أجل تحقيق الوحدة الوطنية. وظل نظام القذافي على كواهلنا لأربع عقود وشرعيته الثورية الحفاظ على الوحدة الوطنية، وحين بدأ حراك فبراير كانت خطابات القذافي وابنه تحذر من تفكك ليبيا إذا ما استمر الحراك الذي يهدد الوحدة الوطنية. والآن تتدخل كل القوى الإقليمية والدولية في ليبيا وكلها تزايد بالحفاظ على وحدة ليبيا كمبرر لتدخلها.

من هذا المنطلق، إذا كانت الوحدة الوطنية لن تتحقق إلا بحروب أهلية أو بنظام استبدادي شمولي، أو بتدخل خارجي، علينا أن نفكر من زوايا أخرى في هذا البعبع الذي يخيفوننا منه، ونتفحص مدى قدرته على الصمود في وجه هذه الاستقطابات الحادة التي تغذيها بشدة رواسب تاريخية. وعموما كانت الغاية أن أسحب البساط من تحت أقدام كل من يتاجر بالوحدة الوطنية من أجل التحكم في الشعب أو الوصول إلى سلطة مطلقة ومن كل الأطراف، وأن أسرب شكوكا تجاه مصداقية هذا الشعار. وسأتطرق إلى شواهد ووقائع ربما تشفي غليل هذه الشكوك دون أن تتمتع بحصانة عن التفنيد الذي يجيده صديقي عمر: الأقاليم في ليبيا حقيقة تاريخية وجغرافية واقتصادية (قوض النفط كمصدر وحيد للدخل الحقيقة الثالثة) ووحد ليبيا قسرا، كما أن التعقيدات التاريخية والاجتماعية التي تسم المنطقة الغربية من صراعات تاريخية لها قرون ومازالت تفعل فعلها حتى الآن حقيقة لابد من التعامل معها، ووجود مكون ليبي أصيل مختلف في جبل نفوسة حقيقة، إضافة إلى الكثير من الشواهد التي عشناها بين الغرب والشرق حتى في مهرجانات المسرح وكرة القدم ظهرت بقوة بعد سقوط النظام وتحت شعارات مختلفة، تدرجت من رهاب المركزية وصولا إلى دعوات الانفصال. ونذكر من الوقائع غزو ميليشيات المؤتمر الوطني بقيادة مصراتة لمدينة بن وليد لتصفية حسابات عمرها أكثر من قرن، وما حدث من معارك بين الزاوية وورشفانة، أو الزنتان والرجبان مع محيطهما، أو قبائل التبو في الجنوب مع العرب، أو انسحاب الأمازيغ الليبيين من هيأة صياغة الدستور الذي لم يلب مطالبهم، ومن الممكن سرد وقائع دون توقف عن مظاهر التفكك السياسي الناتج في أغلبه عن رواسب اجتماعية وبعضه عن دوافع أيديولوجية استثمرت أيضا هذه التشرخات الاجتماعية، ولا أحد يرضى التفكك، لكن حين يكون واقعا علينا أن نتأمله مليا، وسمه ما شئت: (تفكك. تشظٍ. تمزق) لكن التعددية لم ترد في مقالتي إلا في سياق إدارة هذه التناقضات أو المكونات بما يجعلها تسمو نحو هذه القيمة الثقافية والديمقراطية، لأنه لا إمكانية لصهر هذه المكونات إلا بحكم مركزي قوي سيفضي إلى نظام استبدادي، أو بنظام ديمقراطي يضمن فيه التعايش بين هذه المكونات دستور علماني يضمن حرية العقيدة ويحفظ حقوق الجميع تحت مظلة المواطنة، وتغدو فيه الأهداف المستقبلية والمصالح الاقتصادية المتبادلة بديلا للمقولات العاطفية عن الوحدة الوطنية والنسيج الواحد التي لم تتحقق عبر التاريخ إلا في ظل قوة قاهرة، وافدة أو محلية، وهذا مختصر ما ذهبت إليه في مقالتي.

لم أتحدث عن تقسيم ليبيا أو الانفصال، ومصطلح الفكيكة من بنات خاطر الصديق الككلي، فقد تطرقت للحياة الدستورية التي تحتوي هذا التفكك والذي من الممكن أن يتحول إلى تعددية حين يستوعبه العقل المصلحي، ومن ثم يستوعبه أي نص دستوري عينه على الواقع والمستقبل وليس الماضي، وملهمه النظر وليس النظرية، الأمثلة وليس المُثُل، كما استشهدت باقتباس مهم للمفكر والشاعر تي إس إليوت في كتابه (الثقافة) الذي كتب في فترة كانت تعاني فيها الجزر البريطانية من دعاوى متحمسة لاستقلال أو انفصال بعضها حالة بما يشبه حالة أقاليم كاتالونيا والباسك في أسبانيا، حيث حذر إليوت من فرط الدعاوى الوحدوية ومن فرط الدعاوى الانفصالية لأن كليهما يؤدي إلى فاشية، ويوغوسلافيا نموذج لهاتين الحالتين.

يقول الككلي "لكن ما الحل الأكثر سوءا الذي يريد العوكلي من الشعب الليبي الفرار منه إلى التفكك". والواقع أني تحدثت عن التفكك كواقع موجود ولم أدعُ للهروب إليه، واعتبرت هذا التفكك هو الجديد على المجتمعات العربية بعد ثورات الربيع، ودعوت للنظر إلى جوانبه الإيجابية وإمكانية إدارته بحكمة، وفتحت بابا وحيدا للهروب منه (وليس إليه) وهو عبر دستور أو ميثاق وطني يضمن مصالح الجميع وإلا فالباب الآخر مشرع على اتساعه لدكتاتورية جديدة تنهض محمولة على شعار الحفاظ على الوحدة الوطنية.

أما استخدامي لمفردات التفكك والتشظي فليست من اقتراحي، لكنها جاءت أيضا من سياق المفردات الشائعة الآن على منصات التواصل وفي وسائل الإعلام في توصيف الحالة الليبية، وحاولت ترويضها بمصطلح رومانسي في الأدبيات العربية وهو التعددية. لأن المقابل لهذه المفردات هو (للُحمة الوطنية) وهو توصيف عاطفي أو رغبوي كشفت الأحداث وسقوط السلطة المركزية مدى زيفه، أو لادقته على الأقل.
هذه وجهة نظري، واحترم وجهة نظر صديقي المفكر عمر الككلي إذا ما كان يعتبر الوحدة الوطنية هي القاعدة، والتفكك أو التشظي هو الاستثناء، فأنا حتى الآن، ــ على الأقل ــ اعتقد العكس.