Atwasat

الصالح العام والصالح الخاص

عمر أبو القاسم الككلي السبت 04 يوليو 2020, 11:43 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

التضحية المنطلقة من دوافع وطنية صادقة، لا تقتصر على خوض عمليات قتالية ووضع المرء روحه على كفه، مثلما يقال، وإنما تأخذ سبلا ومساربَ وأشكالا أخرى يتمكن المرء بواسطة انتهاجها من خدمة وطنه على نحو مهم وفعال، يمد جذورا عميقة لشجرة روح وطنية مثمرة ويوفر أساسا وطيدا لبناء وطني راسخ.

فالشخص الذي يوفد للدراسة في الخارج وبعد إتمام دراسته يُعرض عليه البقاء في بلد الدراسة والحصول على عمل مريح ومجز ومرموق هناك، ويرفض هذا العرض مفضلا العودة إلى بلده وخدمة وطنه (خدمة الصالح العام) من خلال تخصصه، رغم ضآلة الامتيازات الممنوحة له في وطنه، مقارنة بما عرض عليه في بلد الدراسة، يعتبر أنه قام بتضحية مهمة.

والذي يخلص لعمله في بلده ويحاول تخليص مجاله من نفوذ وتلاعب الأجانب (في البلدان حديثة الاستقلال البادئة في طريق النمو) يعد مناضلا وطنيا، بالمعنى الحقيقي للكلمة.

في كتابه "بين الإرادة والأمل: ذكريات وتجارب حياتي"* يسرد الدكتور علي عتيقة سيرته الذاتية ومساره الوظيفي، وكيف كان ضمن مجموعة من طلائع جيله، يضحي بمغريات وامتيازات توفرها له وظائف تعرض عليه من جهات أجنبية، وحتى وطنية، ويفضل عليها وظائف منخفضة المغريات المادية إلى حد بالغ تعرض عليه من قبل الدولة، رغبة في خدمة الصالح العام ووفاء للشعب الذي ينتمي إليه ودرس على حسابه.

يضرب الدكتور علي عتيقة في هذا السياق مثلين.
المثل الأول من تجربته هو نفسه.
يقول الدكتور عتيقة: "كان أحد أصدقائي [الأمريكان] يردد القول ‘هذا بلد المهاجرين فلماذا لا تبقى معنا وتتزوج فتاة أمريكية ثم تكتشف الفرص الهائلة التي يمنحها هذا البلد العظيم؟‘. كان من الصعب على الإنسان مقاومة مثل هذه الإغراءات والحوافز لولا عمق الشعور بالمسؤولية تجاه الوطن والأهل، لذلك لم أوافق على ما تلقيت من عروض للعمل وحوافز للبقاء" (ص: 121).

وبعيد العودة إلى الوطن، سنة 1959، تلقى الدكتور علي عرضا مغريا بالعمل مع "بعثة المساعدات الأمريكية" في ليبيا براتب شهري "يمكن أن يصل إلى ثلاثمائة جنيه ليبي" المبلغ الذي يعتبر ثروة مقارنة بمستويات الأجور والرواتب وقتذاك. وقد قال له المسؤول الأمريكي في البعثة: "أيها الشاب يمكنك أن تصبح ثريا في فترة قصيرة إذا عرفت كيف تستفيد من الفرص القادمة في بلادك" (ص: 137). لكن الدكتور علي ضحى بالفرص الماثلة و "الفرص القادمة" وآثر ، بسبب قوة دوافعه الوطنية، العمل مع "البنك المركزي" براتب قدره ستون جنيها شهريا، أي خمس الراتب الذي عرض عليه من قبل بعثة المساعدات الأمريكة.

ويورد الدكتور علي حالة مماثلة تخص عبد الكريم بللو، الذي كان يعمل معيدا في الجامعة الليبية، والذي كان قد تلقى هو الآخر عرضا من إحدى الشركات الخاصة براتب ثلاثمائة جنيه شهريا، واختار العمل مع الدولة بخمس هذا الراتب وكيلا مساعدا لشؤون التخطيط في وزارة التخطيط والتنمية حين كان الدكتور عتيقة يتولى منصب وكيل الوزارة بها (ص: 208).

قد يقول قائل أن الدولة كانت وليدة حينها وكانت تبني نفسها وأن العمل معها يَعِد بنيل نفوذ في مؤسستها ووجاهة اجتماعية لا يَعِد بها العمل مع شركات أجنبية أو جهات خاصة ليبية.

هذا القول يتعرض إلى النوايا، وبالتالي ليس بإمكاننا إثباته أو دحضه. إلا أنه من الأمانة أن نشير إلى أن الدكتور عتيقة رفض تولي منصب الوزير مرتين. وبالتالي فإن نية الترقي في المناصب واكتساب النفوذ في مؤسسة الدولة لم تكن واردة لديه. ومع ذلك فإنني، شخصيا، لا أجد غضاضة في وجود هذه النية لدى أي شخص. إذ أرى أنه من المهم أن يوازن المرء بين صالحه الخاص والصالح العام.

* الدكتور علي أحمد عتيقة، بين الإرادة والأمل: ذكريات وتجارب حياتي، دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، ط1. 2013