Atwasat

انحراف المسار لا يعني الضياع

سالم العوكلي الثلاثاء 05 مايو 2020, 02:13 مساء
سالم العوكلي

منذ أن تم التمهيد لثورة 17 فبراير في موقع الفيس بوك، ومن بداية انطلاقتها على الأرض كحراك سلمي اكتظت به الميادين من جميع الشرائح الاجتماعية وفي معظم المدن الليبية، كانت الأهداف واضحة لهذه الثورة، وبغض النظر عن كثير من اللافتات العاطفية التي تحن إلى الماضي، إلا أن جوهر هذه الثورة تمثل في مطلب الحرية، وأهدافها المعلنة كانت الوحدة الوطنية والدولة المدنية التي أساسها الدخول في المسار الديمقراطي والمشاركة المجتمعية في القرار السياسي، وهي مطالب لم تكن سهلة بعد أربعة عقود من دكتاتورية حكم الفرد الأوحد، ومن ترسيخ الدولة الأمنية على حساب دولة المؤسسات، وفي الصميم كان غاية هذه الثورة القضاء على حكم الطغيان المتمثل في نظام القذافي وكل أجهزته التابعة له .

سقط مئات الضحايا في الشهر الأول وضمن الحراك السلمي وهم يرددون هذه المطالب ويكتبونها على الجدران وفي البيانات ويتغنى بها المطربون في جميع المدن الليبية، لذلك فثمة ثمن دفع من أجل هذه الأهداف التي كانت تسعى لنهاية حقبة كاملة واللحاق بالعالم الحديث في كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والتنموية.

من جانب آخر تزينت هذه الثورة بديكور وإكسسوار مرحلة الاستقلال السابقة، وكأنها تعيد الزمن إلى اللحظة التي توقفت فيها الدولة المدنية بانقلاب 1969 الذي ألغى الدستور ومؤسساته، ووضع السلطة تدريجيا في يد شخص واحد لا خبرة له سابقة في أي شأن من شؤون بناء أو إدارة الدول، وهذا الديكور كان يضمر في داخله مطلبا جوهريا يتعلق بالعودة إلى إرث الدولة المدنية متمثلا في دولة القانون والمؤسسات والدستور. فقد استقلت ليبيا وبدأت تاريخها السياسي عبر دولة مدنية متجسدة في مَلَكية دستورية، ورغم اعتراض الكثيرين على طبيعة تلك الدولة من ناحية الحريات واستقلال السلطات، إلا أنها وضعت المجتمع على طريق الدولة الحديثة، وضمن ديناميكية قابلة للإصلاح والتنقيح والتعديل الدائم دون التعرض لمخاطر الهزات الكبرى التي لن يتحملها هذا الكيان الهش. ورغم المنع للأحزاب لأسباب متعلقة بطبيعتها في ذ ذاك الوقت، إلا أن الملك الذي لم يخف زهده في السلطة وسعى لتقديم استقالته أكثر من مرة، كان يبحث عن مخرج آمن للانتقال السياسي مع عدم قناعته بنظام التوريث، ويذكر السيد مصطفى بن حليم أن السيد إدريس حدثه عن النظام الجمهوري وأنه غير مقتنع بنظام الوراثة الذي أوجده معاوية.

الآن العالم تغير والمنطقة وليبيا أيضا، ووفق هذه المتغيرات الجذرية لا يمكن لفرد أن يحكم كما حكم الدكتاتوريون السابقون، وحتى الدول التي لم يدخلها الربيع العربي مباشرة طالها هذا التغيير بشكل غير مباشر، فلا أحد كان يتوقع نهاية بوتفليقة وتنازلات نظامه القوي أمام الحشود التي ظهرت في الشارع، ولا أحد توقع نهاية البشير في السودان بهذه السرعة، ولا أحد توقع أن يطال هذا الحراك دولة مثل لبنان مطالبا بسقوط النظام الذي كنا نعتقد أنه النظام الديمقراطي الوحيد في المنطقة. لكن المشهد السياسي يتغير في العالم كله، ومتطلبات العالم الجديد تفرض نفسها في كل مكان، وانتهى زمن الانقلابات التي تنقل السلطة من أعلى الهرم، وكما انتهى زمن المبايعات أو التفويض خارج آليات الدستور واستحقاقاته، وانتهى مفهوم الشعب ليحل محله مصطلحات مثل: (الناخبون) أو (دافعو الضرائب)، وما عاد يملك الساعي إلى السلطة إلا أن يمر عبر هذه القنوات، وأقصى ما يمكن أن يفعله تزوير الانتخابات، أو العزف على وتر الشعبوية، أو استغلال الظروف الأمنية، لكن لا سبيل له سوى استخدام هذه المسارات التي ستكون قابلة للتلاعب والانتهاكات أو استغلال الجهل إذا غاب الوعي عن الشارع وغابت فعالية المجتمع المدني، مع العلم أن اللعبة تغيرت ولن يستطيع استخدامها كما استخدمها الطغاة السابقون عبر حكم الفرد أو الحزب الواحد أو الانتخابات الشكلية، ولابد من استيعاب هذه المتغيرات الجذرية حتى لا تتكرر المآسي ويدفع ثمنها الناس والأنظمة.

وما حدث في الجزائر والسودان يؤكد نهاية حقبة التلاعب بمؤسسات الديمقراطية، كما يؤكد أن لا مجال لانفراد شخص أو منظومة مدنية أو عسكرية بالسلطة ورغم أنه من المفترض أن يكون الجيش المحترف والمهني بعيدا عن السياسة إلا أن الظروف الأمنية هي التي فرضت هذه المشاركة لأن سقف مطالب الشارع كان عاليا، والظروف الأمنية حقيقة من حقائق اللحظة الراهنة التي ينشط فيها الإرهاب بشكل غير مسبوق والذي تسعى فيه القوى الإسلامية لفرض دولة دينية كما في إيران. ودائما كان للمطلب الأمني بالنسبة للمجتمعات أولوية.

الأزمة في ليبيا مازالت تضع المستقبل أمام سيناريوهات جميعها خائن لأهداف ثورة فبراير، وانحسر الصراع بين الجيش الليبي النابع من مجلس النواب المنتخب محليا والمعترف به دوليا، والميليشيات المسلحة النابعة من اتفاق الصخيرات المعتمد دوليا، غير أن الفارق بين الطرفين جوهري، وبغض النظر عما يوجه للجيش من انتقاد فإن له تراتبيته وقادر على أن يجمع كل السلاح خلال أسبوع في المناطق المسيطر عليها، وفي الطرف الآخر ثمة ميليشيات مسلحة لا يمكن جمع السلاح في المناطق المسيطرة عليها إلا بمعجزة، ونحن نعرف أن أكبر عقبة أمام الدولة المدنية أو أي استحقاق ديمقراطي هي انتشار السلاح. وتجاوزا لهذا الفارق الجوهري ثمة فرق آخر بنيوي، فالجيش مهما كان ضعيفا أو متغولا أو مسيسا او مستعينا بقوى مدنية أو دينية داعمة فهو بنية قابلة للتطوير وقابلة للإصلاح وقابلة للدسترة ولوضعها في إطار القانون مع الوقت لأنه بنية مفتوحة للتعديل، وأن واقع الجيش في حالة الحرب سيختلف عنه في حالة السلم، أما الميليشيات فهي بنية مغلقة أو مجموعة من الدوائر المغلقة على نفسها، غير قابلة للإصلاح ولا للتطوير ولا للدسترة ولا لوضعها في إطار القانون لأن أساس وجودها واستمرارها هو غياب الدستور القانون، فلا يوجد دستور في العالم ينظم عمل الميليشيات، لكن في كل دستور أبواب تنظم عمل الجيش وحقوقه وواجباته، أما محاولة إدماج الميليشيات في مؤسسات الدولة فقد أثبتت فشلها على مدى تاريخها. فميليشيات الفارك في كولومبيا استمرت تثير الفوضى لأكثر من 50 سنة، وتسببت في مقتل نصف مليون شخص، وحتى حين بدأت منذ عامين محاولة إدماجها في العمل السياسي تعثر الأمر لأنها تعاملت مع السياسة بعقلية الميليشيا التي لا تتغير، كما أن السبب الذي جعل اللبنانيين يخرجون للميادين مطالبين بإسقاط النظام الذي نعتقد أنه ديمقراطي، يرجع إلى كونه نظاما بنى ديمقراطيته على واقع الميليشيات التي جعلت لبنان على حافة حرب أهلية في كل وقت، وما يعرقل بناء دولة العراق بعد 20 سنة من سقوط النظام السابق هي الميليشيات التي تغلغلت في العمل السياسي وأصبحت قوة خارجة عن القانون موازية لقوة الجيش، ورغم أن حكومة المالكي كان معترفا بها دوليا، وجاءت عبر الخارطة الدستورية، إلا أن خضوعها لسلطة الميليشيات هو ما وضع العراق حتى يومنا هذا في مهب الريح وانتهت هذه الحكومة المعترف بها دوليا بتسليم نصف العراق لجماعة داعش، ولن تقوم قائمة لدولة العراق طالما كانت الميليشيات متغولة فيها رغم كل الحكومات التي مرت والمعترف بها دوليا، وهذا الوضع أدى في النهاية إلى خروج الناس في ثورة للميادين مطالبين بإسقاط النظام برمته.