Atwasat

بن يونس

سالم الكبتي الأربعاء 18 ديسمبر 2019, 12:07 مساء
سالم الكبتي

«أفاضل الناس أغراض لذي الزمن *** يخلو من الهم أخلاهم من الفطن» المتنبي

الرواد الرجال منارات في طريق الأمة.
إنها تظل أمام عيون الأجيال وحين يرحلون يتركون فراغا كبيرا وموحشا في الوطن. لكن أعمالهم وجهودهم تظل ولا ترحل. حتى وإن ارتكبت رذيلة النسيان أو التجاهل في حقهم بلا مبرر. والأوطان المهيبة تلحقها هذه الرذيلة إذا اتصف الأبناء بالجحود. ذلك عار يلطخ جبين الأجيال على الدوام.

محمد بوبكر بن يونس أحد هؤلاء الرجال، الذين تناستهم تلك الأجيال في زحام لهاثها الذي نجح في محو الذاكرة وجعلها غائبة تحت الأقدام الراكضة. كان العام 1931 شهد ولادة بن يونس في بنغازي. الوطن لا يزال تحت الاحتلال والعسف. نشأ في المدينة الصغيرة. البحر والسباخ وأكوام الملح والأضرحة والحلم بشمس أخرى لم تزل بعيدة في الأفق. جيل الثلاثينات كان الجيل الوسط بين الجيل الأب الذي سبق وبين الجيل الذي لحق بعد الحرب الثانية ورمادها. كان ذلك الجيل واسطة العقد بين جيلين ومرحلتين فاصلتين وقاطعتين تماما. كان أغلبه جيلا مهما في تاريخ ليبيا المعاصر.

درس المرحلة الثانوية في بنغازي بمدرسة الأمير. أسهم في أنشطتها الثقافية تلك الأيام من الأربعينات ومع زملائه: محمد مهلهل وسالم بوقعيقيص وأحمد مبارك الشريف وأحمد يونس نجم وعبدالقادر العيش ومحمد عمر الجروشي وحسين السيد الشريف وعوض البرغثي وحبيب الصابري ومفتاح مبارك، أصدروا وحرروا مجلة أقلام بإشراف أستاذهم محمد السعداوية. مقالات وقصائد ومناقشات وأخبار سبقت مراحلهم العمرية. كان نشاطا يفيد في تاريخ الوطن الثقافي والفكري والتعليمي غفل عنه الكثيرون. وقت أن كان الطلبة طلبة بكل المستويات، والأساتذة يحملون رسالة ويؤدون واجبا قبل أن يقوموا بمهنة. لم يكن التعليم مهنة أو حرفة.

ثم غادر مع مجموعة من زملائه أكملوا الدراسة الثانوية إلى القاهرة العام 1952 لمواصلة الدراسة الجامعية، فالتحق بكلية الحقوق وتخرج فيها العام 1957. سنوات اللهيب والانفجار في المنطقة. وهناك واصل نشاطه الفكري والاجتماعي من خلال نادي ليبيا الثقافي. مقره كان في العتبة. مقهى البرلمان وضجيج الأسواق ونداءات الباعة وصفير القطارات. القاهرة ليست بنغازي. اختير مشرفا ثقافيا وسكرتيرا للنادي وعضوا بأسرة تحرير مجلته (صوت ليبيا) مع عامر الدغيس وعلي بوزقية ومنصور رشيد الكيخيا ومفتاح السيد الشريف وعبدالحميد النيهوم وغيرهم. ذلك النادي الذي كان يتوهج حماسة ويتقد وطنية مثل الجمر. وجمع في رحابه كل أبناء ليبيا وأضحى شاهدا حيا على المناظرات والحوارات والمحاضرات والأمسيات والتواصل مع أبناء الوطن في الداخل والمهاجرين الليبين في مصر. تبرع الملك إدريس للنادي بقيمة مالية.

ورعى أنشطته في بعض الأحيان بطريقة أو أخرى السفير الليبي إبراهيم أحمد الشريف السنوسي عبر زياراته للنادي المتواصلة ولقاءاته بالطلبة هناك. مرحلة مهمة بدأها فاضل المسعودي ومحمد عمر الطشاني ومصطفى التريكي ومصطفى القويري ومحمد مختار جوان وغيرهم. كان الاسم نادي طرابلس الغرب ثم تغير إلى ليبيا. مرحلة مضيئة تحتاج أيضا وعلى وجه السرعة إلى التأريخ والتوثيق بعيدا عن التخرصات والأكاذيب وعدم الفهم للأمور من قبل من يجيدون الادعاءات ويهرفون على الدوام بما لا يعرفون، ويسيئون إلى تاريخ وذاكرة الوطن بالتشويه واللصق من الصفحات وارتكاب العديد من الموبقات الفكرية والتوثيقية الخاطئة.

خلال فترة دراسته في القاهرة وحين حضوره إلى مدينته بنغازي أيام الصيف والعطلات لم يتوقف عن العمل التطوعي والفكري. شارك في تكوين نادي الشباب الجامعي ثم نادي الطلبة. قام الناديان بجهود ثقافية رائعة في بنغازي تلك الأيام. مواسم الحرف والكلمة، حرث في الأرض العطشى التي تنتظر المطر، جهود اعتمدت التضحية ونكران الذات والعطاء المخلص.

بعد التخرج العام 1957 وعقب العودة إلى بنغازي التي تنهض رانية إلى النور، عين بالنيابة العامة في ولاية برقة. امتاز أداؤه القانوني بالنزاهة. وتولى تدريس القانون في كلية الضباط الملكية واشتغل بالمحاماة ردا للمظالم ثم تعاون مع زميله المحامي الأستاذ عبدالحميد النيهوم في إعداد وإصدار العمل الفخم والكبير (موسوعة التشريعات الليبية) وكان أحد الأربعة من مؤسسي دار ليبيا للنشر صحبة الأساتذة: عبدالمولى لنقي ومحمد بن صويد وحسين الكنيالي العام 1966. الدار التي أصدرت كتبا ومراجع مختلفة وتراجم عن تاريخ ليبيا وبدأت أعمالها بتحقيق وطبع قاموس تاج العروس للزبيدي في عدة أجزاء وبعض مؤلفات الإمام السنوسي الكبير. من نادي ليبيا إلى دار ليبيا. الوطن يعلو بالفكر والقيم والثقافة. رحلة باتجاه التنوير والوعي وبناء الإنسان التي يقوم بها الرواد الرجال منارات الأمة أمام الأعين المنطفئة.

اختير عميدا لبلدية بنغازي العام 1967. أنفاسه الشابة ظلت تلوح عبر الكثير من اللمسات الحضارية للمدينة التي تحققت بجهوده وجهود أعضاء المجلس البلدي. وكان والمجلس أيضا ممن دعموا مشروع الإسكان الذاتي الذي استهدف نقل مواطني حي الزرايب إلى المشروع المذكور، في لمسة إنسانية وخطوة وطنية اقترحها وبدأها المهندس محمد المحيشي ونالت المساندة والتشجيع المادي والمعنوي من العميد والمجلس. وفي أواخر ذلك العام عين محافظا لبنغازي ولم تنقطع الجهود في الإنجاز والتطوير للمدينة.

ثم في العام 1972 عين وزيرا للخدمة المدنية وشهدت جلسات مجلس الوزراء مواقفه الشجاعة مع زميله عيسى القبلاوي وزير التخطيط حيال التصرفات التي كانت تبدر من رئيس المجلس عبدالسلام جلود فاستقالا منها. وتركا له الحكومة بما فيها. واجهه بن يونس بالقول بجملة مفيدة مختصرة: نحن لسنا تلامذة.

في مرحلة لاحقة كان وزيرا في الحكومة الاتحادية التي شكلت إثر إعلان الوحدة الثلاثية بين مصر وليبيا وسورية. ثم استقر في القاهرة وواصل إصدار الموسوعة القانونية الليبية ثم صارت أكثر شمولية واتساعا بإصداره موسوعة التشريعات العربية. مرجع لتأسيس وتوكيد ثقافة القانون والحقوق.

رحل بالقاهرة واحتضنه تراب المدينة التي أحب. وليبيا التي أخلص لها في أكتوبر 2001 . أيام الخريف وبدايات تباشير المطر وقرب موسم الحرث.

وفي كل الأحوال الرجال لا يرحلون. تبقى مواقفهم كالقذى في أعين التافهين. رغم رذيلة النكران والجحود.. التي تعتري الأوطان في لحظات غبية من الزمن الكافر.