Atwasat

الجابري وطرابيشي: الآيديولوجي والابستيمولوجي.

محمد خليفة السبت 23 نوفمبر 2019, 02:37 مساء
محمد خليفة

نقمة طرابيشي على الجابري سببها آيديولوجي وليس ابستيمولوجيا. ولما كان الابستيمولوجي تابعًا للآيويولوجي فلا مناص من مناقشة موقف طرابيشي في سياقين منفصلين؛ أولهما الابيستمولوجي وهو الظاهر، وثانيهما الآيديولوجي، وهو الخفي، على اعتبار أن الآيديولوجيا "وعي غير واعٍ".

أولاً. ابستيمولوجيا طرابيشي.
يعتقد طرابيشي أن الجابري يخفي هويته الإسلامية تحت عنوان "العقل العربي". وهذه التهمة لا تتحول أمام القارئ/ القاضي إلى إدانة إلا بإثبات وحدة العقل العربي- الإسلامي. ولهذا الغرض "الآيديولوجي" خصص طرابيشي كتابًا كاملاً (وحدة العقل العربي الإسلامي)، واضعًا فرضية الوحدة في سياق ابستيمولوجي (معرفي) نافيًا التفرقة بين البيان والعرفان والبرهان من جهة ونافيًا، من جهة أخرى، قسمة العقل العربي إلى مشرقي/بياني ومغربي/برهاني، لأن بغير هذا النفي المزدوج (المعرفي- الجغرافي) لن تقوم لنقد النقد قائمة.

وقد ذكر طرابيشي أن هناك من أخذ عليه إضاعة جهده في نقد نقد الجابري، وكان الأحرى به أن يشتغل على مشروع يتجاوز الجابري، غير أن طرابيشي اعتبر الجابري عقبة ابستيمولوجية لابد من نسفها. تأسيسًا على ما سلف يكون نقد طرابيشي لنقد الجابري غير ذي جدوى، في نظري، إلا إذا أمكن أن يكون الهدم/التفكيك وليس البناء هدفًا معرفيًا. وستصبح هذه الدعوى (وأنا مسئول عنها) أكثر وضوحًا عندما نضع القضية برمتها في سياقها (الآيديولوجي) المناسب.
اختار طرابيشي الهدم ليس لأنه أسهل من البناء فقط، وإنما لأنه بغير ذلك لن يكتب لآيديولوجيا طرابيشي (غير الإسلامية) الانتصار على الآيديولوجيا (الإسلامية) غير المعلنة للجابري! ولذا لم يكلف طرابيشي نفسه عناء التأليف، وطفق يهدم/يفكك ما بناه الجابري، مركزًا نقده على هفوات الجابري على مستوى المراجع و/أو الاستشهاد بها نقلاً عن آخرين، ودون ذكر "المرجع الواسطة"، وهو ما يجعل القارئ يعتقد أن الكاتب يمتح من أمهات المراجع وليس من هوامش الشروح! وبالرغم من أن مثل هذا المسلك مما يضر بالأمانة العلمية، إلا أن العمل به معروف في عالم الكتابة، وقد تطور مؤخرًا إلى ظاهرة سيئة جدًا اسمها "قص ولصق"! وهذا المأخذ (أي الأخذ من الواسطة وليس المرجع الأصلي) قد يضر بشكليات بحث الجابري لو كان يقدمه لنيل درجة علمية، لكنه على المستوى الموضوعي لا يستحق العناء الذي كابده طرابيشي، وبذا يكون هجومه على ما بناه الجابري من زاوية ابستيمولوجية غير ذي جدوى موضوعيًا، وقليل الأهمية علميًا.

ثانيًا. آيديولوجيا طرابيشي.
القراءة بين السطور تُظهر أن الهم الذي حرك طرابيشي كان آيديولوجيًا، غير أن السطور التي تخفي المخفي هي ذات السطور التي تشي به، وليست السطور وحدها التي تشي بذلك بل جل عناوين طرابيشي، وكما سنرى لاحقًا.
يعتقد طرابيشي أن الجابري مسلم يخفي إيمانه، وهو ما يجعل مهاجمته على الجانب الآيديولوجي أمرًا شبه مستحيل، لا سيما أن الجابري حاول أن يمرر نفسه في صورة العلماني (بصراحة في بعض مراحل حياته، وضمنًا في كتابه نقد العقل العربي) وهو ما يجعل مهمة طرابيشي مستحيلة، لأن الفصل بين العقل العربي والعقل الإسلامي، يجعل هجوم طرابيشي على الآيديولوجيا المفترضة للجابري غير ذي موضوع (لأن الجابري لم يعلن إسلامية عقله). ولو أن الجابري أعلن ذلك لاستطاع طرابيشي أن يستمر في معركة يخوضها - منذ زمن ليس بالقصير- على جبهة الأفكار، حيث تظهر له أعمال باهرة من شأن إيراد بعض تفاصيلها هنا إقناع القارئ أن الخصومة بين الجابري وطرابيشي آيديولوجية وليست ابستيمولوجية. وتكشف عناوين مؤلفات طرابيشي عن ذلك بصراحة صارخة أحيانًا. خذ مثلاً كتابه "المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي"، ثم كتابه "المعجزة: أو سبات العقل في الإسلام" و"من النهضة إلى الردة: تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة"، ثم "إسلام القرآن وإسلام الحديث".

هجوم طرابيشي والتيار العلماني على العقل المسلم من ثوابت البحث والكتابة عندهم، فالإسلاميون في نظر طرابيشي مصابون بعصاب جماعي منذ هزيمة 67. وهذا العصاب الجماعي (الإسلام) ينتج فكرا بائسا اسمه الفكر الديني. و"بؤس الفكر الديني" الذي كان في تحليلات صادق جلال العظم ظاهرة فردية قبل النكسة (سيد قطب)، تحول في تحليلات طرابيشي إلى "عصاب جماعي" بعدها. صادق جلال العظم وجورج طرابيشي من ملة/آيديولوجية واحدة، ولذا توحد موقفهما السلبي من الفكر الإسلامي. واختلاف توصيف الكاتبين للحالة الإسلامية لا يمنع التقائهما على اعتبار الإسلام ظاهرة مرضية.

في واقع الحال؛ يتخذ طرابيشي من الإسلام ذات الموقف الذي اتخذه نيتشه من البروتستانتية التي عرّفها على أنها "الشلل النصفي للمسيحية وللعقل". طرابيشي يعتقد أن العقل المسلم لم يصبح عقلاً مستقيلًا بفعل التيارات الوافدة مثل العرفان الغنوصي، كما في طرح الجابري، بل لأن الإسلام هو شلل/سبات العقل، ولا حاجة لمؤثر خارجي/ دخيل للتسبب بذلك.
استاء طرابيشي كثيرًا من الجابري عندما تبنى هذا الأخير فكرة الاكتفاء بالعقلانية والديمقراطية كخصائص للحداثة الموفية بحاجة العرب، مقترحًا حذف "العلمانية" من قاموس الفكر العربي. وبخصوص هذا الموقف يقول طرابيشي:" هنا شعرت أن كل الآمال التي علقتها عليه باعتباره رائد ثورة معرفية ـ لا ثورة آيديولوجية ـ سقطت وتهاوت".
وفي نقد/ ثلب هذا الموقف للجابري يقول طرابيشي: "يريد [الجابري] الاستعاضة عن شعار العلمانية بشعاري العقلانية والديمقراطية. وعلى هذا النحو تتحول الحداثة إلى سوق للخردة نبتاع منها ـ بأبخس الأثمان ـ ما نشاء، وندفع ما نشاء إذا ما تخوفنا من ارتفاع ما في ثمن التكلفة، والواقع أنَّ استبعاد الجابري للعلمانية أشبه بفعل من يُريد أن يجعل كرسي الحداثة يقف على قائمتين اثنتين بدلاً من ثلاث أو أربع"!

ولم يكن إنسان قادرٌ على تقدير موقف طرابيشي الآيديولوجي مثل المفكر والكاتب اللبناني رضوان السيد، الذي كتب يناقش طرابيشي بخصوص موقفه السلبي مما يجري في سوريا منذ 2011 قائلاً: "تكتب ستمائة صفحة في نقد أهل الحديث، وثلاثة آلاف صفحة في نقض مقولات الجابري وحنفي، ولا تكتب غير صفحتين عما يجري بوطنك؟! طبعًا هذا شأنك أو شأنكم، لكنْ ليس من شأنكم ولا من حقكم بهذه الشروط تسمية أنفسكم عقلانيين عربا، في حين ينحصـر عملكم في تنوير العرب والمسلـمين بشأن الخلاص من موروثهم الديني.."!

كان تخليص المسلمين من الإسلام هو المشروع الفكري الذي دشنه ارنست رينان سنة 1883 عندما قال "أفضل مساعدة يمكن أن نقدمها للمسلم هي أن نحرره من دينه"، وكان ذلك في المحاضرة التي تقدمت مناظرته للأفغاني! وقد ناقشتُ مشروع تحرير المسلم من دينه وتتابع حلقاته (بين 1883 و 1982) في كتابي "مئة سنة من الصراع الفكري"، غير أني لم أتعرض لطرابيشي الذي يسير على خطى ارنست رينان، وفرح أنطون وميشيل عفلق وتلاميذهم من أبناء المسلمين أمثال: طيب تزيني وصادق جلال العظم وحسين مروة.

وإذا كان طرابيشي غير مسلم فما عذر المسلم؟ وفي هذا السياق أعجبني رضوان السيد عندما اختتم نقده لطرابيشي ببيت شعر (للمتنبي) يقول فيه: وسوى الروم خلف ظهرك رومٌ ... فعلى أي جانبيك تميلُ؟! وفي هذا الاستشهاد إشارة لا تخطئها العين، لأن ما لا يزال غائبًا عن أي نقاش جدي هو وقوف بعض مفكرينا إلى جانب الروم، وتموقعهم – آيديولوجيًا - خلف ظهورنا، ليصبحوا "الطابور الخامس"!.