Atwasat

تنهيدة نحو السماء

محمد عقيلة العمامي الإثنين 22 يوليو 2019, 12:17 مساء
محمد عقيلة العمامي

في مايو يعود طائر العندليب من هجرته السنوية. من صحراء جنوب أفريقيا، يعبر مصر، ينحرف نحو غرب المتوسط ويحط على جبل طارق. رحلته الطويلة هذه تصاحبها سيمفونية مذهله تعزفها ذكور العنادل. ليس الذكور كلها موهوبة في الغناء؛ علماء الطيور يؤكدون أن المتميز منها هو فقط من سمع في صغره تغريدا جيدا من كباره. من لم يحظَ في نشأته بمعلم يجيد الغناء، لا يستطيع أبدا مجاراة الجيدين من المغردين في السرب، هكذا يقول العلماء. ويقولون، أيضا، أن هذه العصافير تغني بصوت أقوى في المدن أكثر منه في الخلاء حتى تتغلب على ضجيج المدن! إنها لا تحب الضجيج.

الشاعر الإنجليزي (جون كيتس) نظم قصيدة مشهورة في الأدب الإنجليزي عنوانها: نشيد إلى العندليب" Ode to Nightingale" قال فيها، ما معناه، أيها الطائر الخالد تصدح أنت ولكنهم لا يسمعونك، تصدح أنت بالأغنية نفسها، التي لم تتغير منذ أقدم العصور، تصدح طوال رحلتك الشاقة من أقصى الجنوب وعبر البحار، طوال الليل والنهار.. ولكنهم لا يسمعونك!

في رحلتها، تمر تلك العنادل ليلا من فوق الشقة 63 بالدورِ الشاهق المُتطلع إلى السماء، فأستمتع بهذه السيمفونية العذبة من هذه المخلوقات التي وهبها الله من علمها في صغرها غاية وجودها!.

مع انبلاج الفجر يتباعد تغريدها، و تتلون حافة الأفق بالشروق. كنت قد عُدت من صلاة فجر ليلة من ليالي أواخر شهر رمضان. كان صوت المُقرئ نقيا وجميلا، أُخذت به وبالآية الكريمة التي لم أنتبه إلى حكمتها من قبل، ولو أنني تفكرتُ فيها لَماَ تألمتُ من تلك المشاحنات المؤلمة التي تخنقني عندما أختلي بنفسي من بعد جدل مقيت وشجار مع من أُحترم، وأيضا مع من لا أحترم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}. الجنة إذن، لا غل فيها ولا كراهية، أي أن الحياة الخالية من الغل والحقد تجاه مخلوقات الله كافة هي الجنة.

وتذكرت بطرس عندما سأل السيد المسيح: "يَا رَبُّ، كَمْ مَرَّةً يُخْطِئُ إِلَيَّ أَخِي وَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ؟ هَلْ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ؟ " أجابه يَسُوعُ: "لَا أَقُولُ لَكَ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ، بَلْ إِلَى سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّاتٍ".

وأنا، يا صديقي مُسامح بطبعي، لا أحمل غلا في قلبي لأحد؛ قد أزعل، قد أتكدر، ولكن ما مكّنت هذا الكدر يوما أن يُفتق بذرته لتتفرع أغصانها وتملأ رحاب قلبي، وتحجب عني نور الحياة.

لا أريد للقبح اللعين أن يحجب عني تشكيلات الغيوم وألوان السماء عند الميلاد اليومي لأمنا السماء، وفي ضحاها، وعند رحيلها. لم أعد أغفل عن التطلع إلى السماء، إلى الله؛ فلا شيء يحجب الله عن المرء سوى قلبه، ولا شيء يقتل القلب إلاّ النكد والغل والحسد. ويبتليك، ويمتحنك به الله، بالقبح، في سلوك بعض مخلوقاته، ولكنك تنتصر عليها إن وصلت إلى قناعة بأنه ليس هناك شيء قبيح، كله من متضادات الله، كالحياة والموت، والمرء لا يستمتع بالنور إلاّ بمعرفة الظلام ولا يستمتع بالألوان إلاّ بتباينها واختلافها، ولا بأصدقائه الجيدين إلاّ بمعرفة الرديئين منهم، فالتباين هو سر الحياة، هي نظرية التكاملية في الحياة.

لقد عودت نفسي، بعد هذا العمر، الذي استوعب قبح بعض الناس الذين لم أخترهم ولكنني وجدتهم في حياتي، ولم أجد مفرا سوى أن أحمد لله أنه وضعهم في حياتي، وجعلوني أرى بوضوح شديد روعة الجيدين المناقضين لهم في سلوكهم وثباتهم، وفي تفكيرهم. لقد منعني الجيدون من البقاء، فلقد قيل لي في صباي: "قد يبكي الرجال من كثرة القبح في العالم". ولكنني اكتشفت بوضوح أنهم شموع تنير الطريق نحو الأصدقاء الجيدين. ليس هناك قبح إلاّ ذلك الذي تجعله ينمو في قلبك، فيحجب عنك الرؤية.

أقول لكم أن الموت هوتكاملية الحياة، هو الذي يقنعك باليقين كله، يقنعك أنك لست معنيا بتصحيح سلوك الآخرين، تماما مثلما أنك لست معنيا بإنقاذ العالم، فالشمس تهوي كل يوم والأرض تدور، وتموت الفراشات، والأطفال أنت معني بإنقاذ نفسك فقط، أنت لا تستطيع أن تكون إلاّ أنت.. فأي نفس تهنأ وقلبها يحزن وتألم من أولئك الممتلئين حقدا وحسدا وهم شركاؤه في الإنسانية البشر!

ما أنت إلاّ "تنهيدة" وصوت وكلمة في سموات الله؛ صوت من بلايين الأصوات؛ ليس الأفضل وليس الأكثر حكمة ولكنه صوتك أنت.. لا يشاركك فيه أحد؛ فاجعل منه، عندما يحاصرك القبح تنهيدة أطلقها من أعلى منطقة تصلها في عقلك، من المنطقة الخضراء، اجعلها تعلو فوق زفرات الحقد والحسد والكراهية.. اجعلها منك إلى السماء مباشرة، وتأكد أنها ستعود إليك وتعانقك في أحلامك، وتهمس في أذنك أنت تحلم وهم لا يحلمون.