Atwasat

العباءات الكهنوتية البرتقالية

محمد عقيلة العمامي الإثنين 10 يونيو 2019, 11:38 صباحا
محمد عقيلة العمامي

(بو- صا) تعني: لا للقتل، و (بوصا) هو الاسم الذي تحرف في لغتنا بسبب طبيعة النطق إلى ( بوذا )، التي عندما عُرفت بالألف واللام صارت تعني في اللغة السنسكريتية (الواحد المتنّور)، وهذا البوذا هو مؤسس الديانة البوذية التي انتشرت سلميا، لتكون ثاني الأديان الكبرى انتشارا في العالم بعد المسيحية! وبامتداد قارة آسيا ينتشر دعاتها بأثوابهم البرتقالية الزاهية؛ يحرمون على أنفسهم قتل أي حيوان، ولكن أتباعهم استثنوا الخنزير باعتباره أقل مرتبة من بقية الحيوانات!

ولأن البوذيين يرون أن المرأة عكس الموت، باعتبار أنها واهبة للحياة؛ حق لها أن تتمتع بأنوثتها كيفما تشاء، فأوجدوا لها أعذارا مهما كان سلوكها! أما صلاتها فهي استمتاعها بفحلها، وإمتاعها له. أما ذروة ذلك تصل عندما ينام بعـلها بين يديها؛ من هنا جاءت فكرة التدليك، أو (المساج)، الذي تتفنن فيه الآسيويات، غير أن هذا (الفن) صار بعد الغزو الغربي لجنوب شرق آسيا، ثم الأمريكي لفيتنام، مجرد شكل جديد من أشكال الدعارة، فصارت بانكوك ملهىً كبيرا لراحة الجنود العائدين من جحيم القتال، فاستثمر التايلانديون الفقراء برامج (المساج) وطوروا نواديه، وأضافوا لها المسابح والمغاطس، واستبدلوا ليف الغسل بنهود الفتيات! فصارت تلك النوادي مجرد مواخير للبغاء تعلن عن مواقعها بأضواء ملونة لا تخطئها العيون.

تذكرت ذلك كله عندما ارتميت، كمنشف مبلول، فوق مقعد وثير في مواجهة جدار زجاجي يظهر من خلفه مسرح مدرج باهر الإضاءة ممتلئ بفتيات في عمر الزهور عاريات إلاّ من قماشة ملونة بحجم منديلين حريرين، أصغر بكثير من الورقة التي سترت بها حواء ما يتعين أن يستر! كل فتاة تحمل رقما فوق صدرها، هو ما تحدده لمسئول الصالة فيستدعي لك الفتاة، فتأخذك إلى غرفة خافتة الإضاءة تخر المياه في مغطس يتوسطها، وتغسلك بيديها ونهديها إلى أن تغفو بين يديها، عندها تفوز الفتاة بعبادتها، وتحصل على ما يساعدها على شراء ما تغطى به جسدها عندما تغادر صالة المساج عند منتصف الليل، بعد أن تكون قد ( تعبدت ) عشرين أو ثلاثين مرة ، فالأمر متوقف على مدي تدينها، وأيضا قوامها!

كنت قد وصلت بانكوك بعد عشرة ساعات من طيران متصل، وكان الوقت قد تقدم ثمانيَ ساعات عن توقيت ساعتي التي طرت بها من بنغازي. كان الوقت ضحى فيما كان من تركتهم في ليبيا نائمين. في مطار بانكوك استقبلنا صاحب شركة تتعامل مع مرافقي. قال لنا مهللا:

- " إن ما تحتاجونه، بعد هذه الرحلة الطويلة هو مساج سريع سوف يعيد لكم نشاطكم !".
ولكن الرفاق ناموا في أيدي الفتيات، فيما غفوت أنا – بحكم العمر- في صالة انتظارهم بسبب الموسيقى المنسابة، والضوء الخافت، والشراب المثلج!

منذ ثلاثين عاما زرت بانكوك مع رفيق يبحث عن الحرير. كانت مجرد أكواخ من صفيح متهالك، وبؤس بامتداد البلاد. خلال تلك الزيارة شاهدت مراهنات عراك الديوك، وملاكمة الفتيات في الحانات، مقابل زجاجة بيرة للمنتصرة منهما. وعندما أبديت تعجبي لسائق سيارة أجرة من هذه المراهنات أخبرني أنه بمقدوري أن أراهن على صراع حقيقي بين متنافسين ينتهي صراعهما بموت أحدهما! لأن ذلك فقط هو ما يؤكد عدم الغش في هذه المراهنات!. وعرفت أنه بالإمكان شراء فتاة من أهلها والرحيل بها رسميا أينما أشاء وبمباركة ذويها، الذين يكونون - في الغالب - ضائعين بين سحب الأفيون. وطوال إقامتي لم أر جنديا أمريكيا واحدا يعود إلى الفندق بفتاة واحدة!. ورأيت من هؤلاء الجنود من غيبه إدمان الأفيون، بسبب أهوال حرب فيتنام، فلم يعد إلى وحدته أبدا، والكثيرون منهم مازالوا مفقودين في حواري ومواخير بانكوك حتى الآن!.

والآن، بعد ثلاثين عاما- أصبحت الآن خمسون عاما- لأنني كتبت هذا المقال منذ عشرين عاما!، اختفت حلبات مراهنات الموت، ومراهنات الروليت الروسي، ولم تعد ثمة فتيات للبيع، ولا عراك الديكة. صالات المساج هي فقط التي بقيت، فلا يجوز أن تنتشر في آسيا كلها وتظل بانكوك مبتكرة هذا الفن خالية منها!

صارت بانكوك عاصمة بناطحات سحاب، وأسواق و(مولات) وماركات عالمية. صارت بلدا صناعيا كبيرا، وصار مطارها من أكبر مطارات آسيا، والدخول منه إلى البلاد، لا يتم إلاّ بتأشيرة موثقة ومحددة الأيام التي إن تجاوزتها تحق عليك غرامة.

لم أر- مثلما رأيت من قبل - ناسا متمددين أمام أكواخهم، وإنما رأيت نماذج جديدة، أنيقة، نشطة منطلقة في أروقة المصارف والمكاتب والأسواق والمصانع. لم أر قوادا واحدا، ولا عاهرة بامتداد الطريق، انحصرت هذه النماذج في مواخير آخذة في الفناء، وفي صالات المساج، التي صار القانون ينظم ساعات عملها، ويراقبها طوال اليوم.
فماذا حدث؟

كيف تخلصوا من عاهاتهم الاجتماعية؟

المراقبون يقولون أن العالم صار قرية صغيرة، وصارت الشعوب تتعلم من بعضها البعض، وصارت مؤسساته المدنية تحارب كافة الظواهر التي تقلل من قيمة الإنسان وتهين كرامته. ولكن علماء الاجتماع يقولون: حارب الفقر فتختفِ العاهات الاجتماعية. وتايلاند حاربت الفقر، وصارت دولة منتجة، فتقلص فقرها وبدأ أهلها يهتمون بصحة مجتمعهم ومعتقدهم الروحي. فلا ينبغي أن يتركوا مجتمعهم يزينون محلاتهم بواجهات زجاجية، وأضواء واعدة لمهنة داعرة كانت في أساسها شكلا من أشكال العبادة.

- من مقال عمره عشرين عاما عن حالة رأيتها منذ ثمانية واربعون عاما-