- سيدي خليفة، هذه المرة. كان يصغر سيدي مفتاح سنا، يقارب الأربعين، يفك الخط، ويعرف القراءة. لم يكن مداوما على حضور مجلس سيدي مفتاح، لكنه كان يجيء بين الحين والآخر، ولم يكن يبدي اهتماما يذكر بما يخبر به سيدي مفتاح، بل إنه كثيرا ما كان ينحو بالحديث مناحيَ أخرى، لا تستثير اهتمام الصبي، فيغفل عن متابعتها... في ذلك المساء حضر سيدي خليفة متأبطا كتابا... ألف ليلة وليلة. قال للحاضرين.. الذين لاحظ الصبي شدة اهتمامهم وتركيز أنظارهم على الكتاب الذي أخذ يلوح به أمامهم. ألف ليلة وليلة، قد حصلت عليه كاملا بأجزائه الأربعة، أحضره لِي من الإسكندرية عليُّ، هذه هي القصص وليس ما يرويه هذا ـ وأشار بسباته اليمنى تجاه سيدي مفتاح، الذي نظر نحوه في استسلام دون أن يرد. ألف ليلة.. هيا استمعوا واستمتعوا بما تسمعون.

- فتح سيدي خليفة الكتاب، وباشر القراءة. وأخذ الصبي يستمع مذهولا. شاه زمان*، ملك سمرقند.. يحكي والله أعلم. أراد الذهاب لزيارة أخيه الملك شهريار... في الطريق، عند منتصف الليل.. تذكر أنه نسي الهدية التي
يريد تقديمها لأخيه.. فعاد إلى قصره.. ليجد زوجته تعانق عبدا أسود من عبيده في فراشه... اسودت الدنيا في وجهه.. سل سيفه وضرب الاثنين فقتلهما. ثم عاد ليواصل السفر لزيارة الملك شهريار أخيه.
لاحظ شهريار الملك، ما كان يبدو على أخيه من الكدر والغم، وأراد أن يسري عنه فطلب منه مرافقته في رحلة صيد، لكن الأخ المهموم اعتذر عن الذهاب فتركه دون أن يلح عليه.

- من شباك حجرته المطلة على البستان، شاهد شاه زمان امرأة أخيه تخرج من قصرها برفقة عشرين عبدا وعشرين جارية، فيتوجهون نحو فسقية ـ حوض ماء ـ أعد للسباحة.. خلعوا ثيابهم ... واستدعت الملكة العبد مسعود ليواقعها.. وكذلك فعلت الجواري والعبيد.

- وعلم شهريار بما شاهده أخوه، وتأكد له صحة ما قيل بالرؤية المباشرة، بعد أن أعلن عن عزمه على الخروج إلى الصيد، وبقي مختفيا بالجناح المعد لإقامة أخيه.

- لم يكن وقع تلك الأحداث هينا على الأخوين اللذين قررا ترك البلاد، والطواف في الأرض بحثا عن الحقيقة للوصول إلى المعرفة.

- ولم يطل بهما التجوال، بجانب البحر المالح، تحت شجرة، وسط مرج، بجوار عين ماء، جلسا ليشربا ويستريحا.... بعد ساعة مضت على وجودهما .. شاهدا البحر قد هاج.. ومنه خرج عمود دخان أسود ارتفع عاليا نحو السماء.. استبد بهما الخوف، فاندفعا صاعدين إلى أعلى الشجرة، وأخذا يتابعان ما سيسفر عنه هذا الدخان المتصاعد من قاع البحر.

جني.. مارد.. طويل القامة، عريض الصدر. خرج إلى البر يحمل صندوقا كبيرا فوق رأسه، وجلس تحت الشجرة، وضع الصندوق على الأرض ثم فتحه وأخرج منه علبة، فتح العلبة، فخرجت منها صبية، جميلة، طلعتها بهية. تحدث معها المارد قليلا ثم وضع رأسه فوق ركبتها واستغرق في النوم.

- نظرت الصبية إلى أعلى الشجرة فرأت الملكين، وأشارت لهما بالنزول.
أبعدت عنها المارد العفريت وطمأنتهما ألاّ يخافا من أذاه. وحدثتهما بقصتها مع هذا المارد الذي اختطفها ليلة عرسها، وأعد لها بيتا في علبة داخل صندوق، محاط بسبعة أقفال جعله في قاع البحر. ثم أخرجت لهما من جيبها كيسا، وأخرجت من الكيس عقدا به خمسمائة وسبعون خاتما. وقالت لهما أتدريان لمن هذه الخواتم . وأجابت بأن أصحابها جميعهم كانوا قد فعلوا معها على غفلة من العفريت النائم بجوارها. وطلبت منهما أن ينزعا خاتميهما قائلة إن المرأة إذا أرادت إتيان فعل فلن يثنيها عن القيام به أي شيْ.

وعاد الملكان كل إلى مملكته. وفي قصر شهريار حلت شهر زاد، وتواصلت الحكايات المذهلة.. وتوالت.. ليالي شهرزاد.
كان الصبي يتابع المشاهد المثيرة المتتالية التي يقرأها عمه خليفة بشغف وذهول. حفظ الأسماء التي ذكرت، وتمثلت عنده صور لمواقع الأحداث وأصحابها ملونة مزخرفة تتماوج حركتها وتتداخل، ثم تخرج سابحة في الفضاء من الأسطر في صفحات الكتاب.

- اليوم التالي لهذا الحدث كان يوما مشهودا في حياة ذلك الصبي الذي ذهب قبل موعده المعتاد إلى بيت عمته سليمة. لم يستقبل كالعادة بأي لون من الترحاب. كان سيدي مفتاح يجلس على الحصيرة في وسط الحوش، ورد عليه السلام باقتضاب دون أن يدعوه إلى الجلوس. ولم يطل وقوفه، حيث جاءته العمة سليمة وباشرته قائلة: لا يصح بعد الآن أن تجلس مع الرجال. إن العيال أمثالك يجب أن يلعبوا مع رفاقهم في الشارع، هيا اذهب إلى أمك، مع السلامة يا بني... طردته العمة سليمة... ابنة الخادم السوداء. ولم يكن
قد عرف سببا يدعوها لاتخاذ هذا الموقف المخجل المهين تجاهه.

- لم يمر زمن طويل على ذلك الصبي كي يحصل على الألف ليلة، ولتروي له شهرزاد القصص، كما كانت تفعل مع شهريار، الذي شغلته عن قصته بالعديد المتنوع غير المحدود من صنوف الروايات والقصص. إمرأة ذات قضية.. أوجدت لها قضية، وككل أصحاب القضايا جازفت شهرزاد بحياتها، مقتحمة كهفا مظلما لحق به الخراب وأفسدته الخيانة، فانطلق يرسل إلى من حوله الرعب، ويلحق ببنات جنسها الموت. وعندما يدرك شهرزاد الصباح، تتوقف عن الكلام المباح. لكنها تعود للبوح.. في الليلة القادمة ستعود.. تستكمل حدثا أوتضي. ولا تتوقف فعندها يظل دائما الجديد.
_________
* مستخلص من حكاية الملك شهريار وأخيه شاه زمان ألف ليلة وليلة المجلد الأول 13-15