ضمن سلسلة توثيق تاريخ المدينة القديمة تواصل «الوسط» تسليط الضوء على أحد معالمها وهو زنقة البدوي وشائب العين وأبنيتها وما يرتبط بها من رموز فنية وحرفية واجتماعية وأدبية. وهذه المرة الحديث مع الباحث والفنان مختار دريرة الذي رسم على ورقة بيضاء نموذجا لزنقة البدوي وشائب العين وتفرعاتها، ثم قال وهو يداعب قلمه: سننطلق أولا من جامع شائب العين وهو من المساجد القديمة المعروفة في مدينة طرابلس ويطل على سوق الترك، وقد بناه الوالي محمد شائب العين الذي تولى الحكم من 1678 إلى 1701وترجع أصوله إلى ألبان الجبل الأسود وتعرف هذه المنطقة لدى العثمانيين بكراداغ، وبذلك فإن لقب شائب العين هو الكارادغلي كما لقب بالإمام لما عرف عنه الورع والاستقامة وإمامة المصلين لمدة طويلة.

دريرة علل سبب تلقيب الوالي بشائب العين بوجود شيب في أحد أهداب عينيه وهي واحدة من روايات عديدة، وسمي المسجد بجامع الباشا القديم عقب قيام أحمد باشا القرمانللي ببناء جامع له في طرابلس، وقد بنى شائب العين مسجده على قطعة أرض تطل على سوق الترك وسوق الحرير وأوقف عليه أوقافا كثيرة من محلات ودكاكين لتغطية تكاليف إمامة المصليين.

الحريري والحصائر
يستطرد مختار دريرة قائلا «عند دخولك لزنقة البدوي ستتوقف لاستذكار حكايا خمسمئة عام، حيث يتعامد سوق الترك مع الزنقة ويستقبلك في مطلع الزنقة أول استوديو إيطالي للتصوير الفوتوغرافي زمن الاحتلال الإيطالي، كما يصافحك أول منزل وهو حوش المنستيري نسبة إلى شخصية قادمة من المنستير بتونس، وتكمن أهمية المنزل في اشتهار قاطنه بتربية القطط، وشاركتهم السكن عائلة الفنان أحمد الحريري، فقد أمضى الفنان كامل طفولته في هذا المنزل واشتهر والده بمهنة صيد السمك بالطراحة. يجاورهم بيت نصرالدين القمي أحد الذين قدموا مع الجيش الثامن 1943 وكان يزاول مهنة التمريض بالجيش، في محاذاته يوناني اسمه ميخيلي يعمل في استخراج الإسفنج من البحر ويصدره إلى أوروبا، وعرفت زنقة البدوي أشهر صائغ لحلي الفضة في مدينة طرابلس وليبيا اسمه (سوسو بيه) من أصول يهودية»، وكان دريرة قد التقاه فترة ستينيات القرن الماضي.

للاطلاع على العدد 398 من جريدة «الوسط».. اضغط هنا

تواصل ذاكرة دريرة ممشاها لتنعطف في زقاق شائب العين متوقفة عند بيت عائلة من تاورغاء اشتغل أبناؤها في حرفة الحدادة يجاورهم في الخلف يهودي مقاول اسمه (ماموس شمامة) تجاوره أسرة الجزيري تعود أصولها من الجزائر مارس التدريس وزاول مهنة الطب الشعبي، وننتقل إلى منزل ساكن آخر اشتغل بمهنة الإنشاد في الزوايا والأفراح، ثم يطالعنا اسم يوسف بن كورة، كان يمتلك أسطولا من القوارب لاستخراج وبيع السمك، تجاورهم عائلة دريرة اشتهرت بصناعة الحديد (الشبابيك والأقفال) وامتهنوا زمن العهد القرمانللي ركوب البحر، لهم مركب كبير لنقل الركاب والبضائع بين طرابلس وجربة وقرقنة، كما تقطن بالزنقة عائلة العزابي من منطقة الجبل الغربي عرفت بصناعة (التازير والحصيرة) يشاركهم في السكن عائلة الجهاني من مصراتة وأخرى من فزان.

ويعود مختار دريرة لاستكمال تجوال المخيلة في محطة زنقة البدوي مرة أخرى تستوقفنا ثلاثة دكاكين لثلاثة من الربيين اليهود يمتهنون صناعة الخواتم يقابلهم شخص اسمه عاشور يعمل بالنهار نجارا وعازف كمان في النادي الليلي يجاوره يهودي اشتهر بصناعة الحلي ليقابلنا اسم الوحيشي الذي اشتهر بصناعة النسيج. وتطل على الزنقة أحد أبواب فندق مادي حسان الصديق الشخصي ليوسف باشا القرمانللي.

محاولة الاغتيال
دريرة يشرح تفاصيل أخرى عن المبنى بوصفه أكبر فنادق المدينة القديمة وله أبواب تطل على سوق القزدارة والنجارة وزنقة البدوي وسوق الترك فيقول «يتكون الفندق من مجموعة حجرات تستخدم كسكن وأخرى كمحلات لصناعة النسيج والفضة كما قطنه طبيب إيطالي وشغل أحد غرفه حرفي اسمه محمد قنيوه امتهن صناعة البدل العربية».

ويتابع «اشتهر الفندق باحتضانه لعقود الزواج، كما يجرى قراءة قصة المولد النبوي في ركن معين منه كتقليد يسبق دخول العريس على زوجته، واستفاد والي ولاية طرابلس آنذاك فاضل بن زكري من إحدى حجراته الواسعة المطلة على سوق الترك فترة الخمسينيات والستينيات في الالتقاء بأصدقائه من الوزراء والنظار والمدرسين ووجهاء المدينة حيث يلعبون الورق ويتداولون أمور السياسة وغيرها، ولا تفوته الإشارة إلى حادثة محاولة الاغتيال التي تعرض لها فاضل بن زكري في الفندق حيث أطلق مجهول من فوهة مسدسه ثماني رصاصات لكنها لم تحدث أي إصابات».

لقطات من المدينة القديمة بطرابلس. (الإنترنت)

لقطات من المدينة القديمة بطرابلس. (الإنترنت)