Atwasat

ارتكاسة الحداثة، الرسم نموذجاً

أحمد الغماري الأحد 10 أبريل 2022, 02:51 مساء
أحمد الغماري

من النادر أن تصادف مقالاً غاية في الأهمية لكاتب ليبي يتطرق إلى مسألة انتكاس المشروع الحداثي وانحصاره في الثقافة الليبية، ويشير بالبنان إلى ظاهرة بدأت تتفشى بين الشباب من الشعراء والرسامين الذين دأبوا في الآونة الأخيرة على نسج إنتاجهم الإبداعي بالعودة إلى التراث الكلاسيكي، في ظل تأثير غير مباشر لتيار المذهب الوهابي السلفي في الحياة العامة.

هذا ما ورد بالمجمل في المقال المقتضب الذي نشره الكاتب والقاص عمر الككلي هنا في موقع بوابة الوسط تحت عنوان (العودة إلى الماضي في الشعر والرسم)* والذي أشكره على طرح قضية سيكون لها تأثير سلبي، طويل الأمد، على تطور الإنتاج الأدبي والفني في ليبيا، ما سيؤدي – إذ ما استمر على هذا المنوال - إلى عزلته وغيابه عن المحافل والمناشط الثقافية العربية ولاسيما الدولية الجادة منها مستقبلاً.

ما أود أن أضيفه على ما جاء في مقال الكاتب عمر الككلي، سينصب على غياب مشروع الحداثة في مجال الرسم أكثر مما هو عليه في مجال كتابة الشعر، وسأحاول إضاءة جانب تاريخي مهم تسبب اليوم في عزوف الشباب عن الأخذ بالحداثة علاوة على تأثير المذهب السلفي الذي رأى الكاتب عمر الككلي أنه اقتصر على الشكل - في الشعر والرسم - ولم يمتد إلى المضامين. في اعتقادي، أن السبب التاريخي يكمن في المعارضة الضمنية التي عبر عنها فنانون ليبيون لم يلتحقوا بالكليات الغربية ولا الشرقية لدراسة الفن، وانتقدوا إنتاج زملائهم الذين درسوا وتأثروا بمناخات الفن والحداثة الغربية. وكانت ردة فعل أولئك الفنانين المعارضين أن التجأوا إلى الفن الفطري (العفوي) بمضامينه، ولا يخضع إلى المقاييس الأكاديمية ولا إلى تنظيرات تيارات الفن الحديث والمعاصر. جاءت هذه المعارضة تماشياً مع معارضة عربية أوسع رأت في الفن الغربي (الحديث) أنه لا يمثل هويتها. وبدأ فنانوها في البحث - وبتشنج - عن هوية تشكيلية تمثل الهوية العربية، ولم ينجحوا إلا فيما سمي بجماعة البعد الواحد «الحروفية»(1) التي ولدت من رحم التجريدية الغربية وكان لها حواريوها في باقي الدول العربية.

قبل أن يسافر الفنانون الليبيون الرواد لدراسة الفن في الكليات الغربية منتصف عقد الخمسينيات من القرن المنصرم كانوا يرسمون لوحات بواقعية كلاسيكية وبتقنية ومضامين تراثية بسيطة، وبعد أن عادوا اصطدموا بسؤال الهوية التشكيلية، الذي أنساهم سؤال الحداثة. ولذا ارتبكوا وفشلوا في تحقيق الهوية التشكيلية (المحلية) وفي تلبية شروط الحداثة وتطويرها.

اليوم توقف جل الفنانين الأحياء من الرواد - بعد محاولات عدة - عن العطاء الفني وانسحبوا من الساحة التشكيلية، التي أضحت خاوية من التنظيم العملي والفكري المحكم، ما فتح الباب أمام عودة الرسم الواقعي الكلاسيكي لدى الشباب، الذين لم يجدوا أمامهم مشروعا تشكيليا حداثويا وفكريا واضحا، وباتوا كما كان أجدادهم من الفنانين الرواد يرسمون لوحات تصور التراث والمشاهد القديمة، أبعد ما تكون عن قضايا العصر وعما يجري على أرض الواقع، بينما أقرانهم في دول العالم يتخاطبون بلغات بصرية عدة، منها الواقعية الجديدة والمعاصرة، وأخرى تخرج عن إطار اللوحة المسندية التقليدية إلى فضاء التقنيات المعاصرة، باستخدام كل ما يمكن أن يقع تحت يد الفنان ليصبح وسيلته لإيصال أفكاره ورؤيته في قضايا العصر.

إذن أدت المعارضة لأفكار الحداثة التشكيلية باعتبارها منتجا فكريا غربيا لا يمت بصلة إلى ما اصطلح عليه بـ«الفن التشكيلي العربي الحديث»(2) وهو مصطلح "عاطفي" لا يستند إلى مرجعية فنية مشتركة ولا إلى أسس فكرية على أرض الواقع، إلى جعل المشهد الفني الليبي يظهر مرتبكاً ومشوشاً، ينزع الجيل الجديد فيه نحو الكلاسيكية أو في أحسن الأحوال نحو بدايات الحداثة. أعتقد أن أحد السبل للخروج من مأزق العودة إلى الماضوية في مجال الرسم على الأقل، يكمن في القبول بأفكار الحداثة الغربية والتعامل معها وترك مسألة الهوية تتشكل عفوياً عبر التفاعلات الاجتماعية والثقافية، لكن لن يتسنى تحقيق ذلك، ما لم تكن ثمة رعاية وصالونات ومعارض تبرز فنون الشباب ورؤاهم وأفكارهم.

_______________________
هوامش:
*نشر المقال (العودة إلى الماضي في الشعر والرسم) للكاتب عمر أبو القاسم الككلي يوم الأحد الموافق3-4-2022، هذا رابطه الإلكتروني: http://alwasat.ly/news/opinions/354533?author=1
(1)- الحروفية، مصطلح فني ظهر في العراق سنة 1970 تقريباً وانبثق عن جماعة البعد الواحد التي أسسها الرسام العراقي شاكر حسن آل سعيد، وترتكز الحروفية على إدماج الحرف العربي في فضاء اللوحة الزيتية (التجريدية) لينتج عن ذلك صورة مختلفة عما هو سائد في فن الرسم والتصوير من تجارب حديثة في الغرب.
(2)- الفن التشكيلي العربي الحديث، مصطلح غامض يطلق على فن الرسم والتصوير بالصباغة وعلى غيرها من وسائل التعبير الفني الحديثة في البلدان العربية. وترجع الكتب الصادرة في هذا المجال ظهوره إلى بداية القرن المنصرم. ويقصد في الغالب بهذا المصطلح الفن في دول المشرق العربي، لاسيما العراق ومصر ولبنان وسوريا ومؤخراً دول الخليج، أكثر مما يقصد به الدول المغاربية.