Atwasat

المفكر سعيد المحروق في كتاب

أحمد الفيتوري الثلاثاء 15 ديسمبر 2020, 11:16 صباحا
أحمد الفيتوري

".. وإن أشباه الفراشات التي

قد زورت، وانتحلت..

هوية الفراشة الحقة، بالتحوير والتدوير
هي التي أتت
على قوت الفراشات الأثير
وأكلت في هذه الشموع، النور "
• شعر: سعيد المحروق

• سيرة الموضوع
كنت بالجبل الغربي بوابة جهنم، كما أحببت أن أداعب صديقي الشاعر الجيلاني طريبشان، الذي أقام هناك منذ عودته من منفاه الاختياري في بغداد، وحتى ساعة رحيله، في "فساطو"، المدينة التي ولد فيها شاعر الوطن الليبي أحمد رفيق المهدوي المحتفي بمئوية مولده 1998 م.

أهديتُ ورقتي البحثية المشارك بها في تلكم المناسبة لروح الشاعر الصديق سعيد المحروق وإلى جيلاني طريبشان الحاضر آنذاك. المحروق كما طريبشان من جيل ما بعد الرواد؛ رواد الشعر الحر أو قصيدة التفعيلة الذين جلهم ماركسيون أمميون، لهذا لم يخطر في البال أن سعيد المحروق صديقي أمازيغي أو "بربري" – الاسم الذي لا يحبون أن يُعرفوا به - كتبتُ عن المحروق، عن شعره، وعن جمعه لحكايات ليبية، وكان يكتب بعربية فصيحة تلكم الحكايات الشفهية كما كل كتاباته. وأفتح قوسا لأشير إلى أني لا أعتقد أن هناك لغة مثل العربية من ساهم في تطويرها وتجويدها الإثنيات التي عاشت في كنف الحضارة العربية الإسلامية.

على أي حال، فور انتهاء الجلسة الأولى من ملتقى مئوية رفيق وجدت ثلة من الشباب يحتفي بي، استضافني سعيد المحروق ميتا كما كان يستضيفني حيا، فإن إهداء ورقتي البحثية إلى روحه كان وراء هذا احتفاء من قبل جماعة تُكن ما تُكن للمحروق باعتباره الابن الضال الذي هجر لغته الأمازيغية للغة العرب.

هكذا وجدت سعيد المحروق ابنا ضالا دائما حيا وميتا، وسعدت بصداقتي لابن كهذا، الذي اعتبرته السلطة السياسية والاجتماعية والإثنية ضالا ومن المغضوب عليهم .
عقب خروجي من السجن مباشرة زارنا الشاعر محمد عفيفي مطر، وكنا معا في فندق أجنحة الشاطئ بطرابلس الغرب، حين طلبنا لمقابلة شخص في انتظارنا في سيارة خارج الفندق، ولا يستطيع الحركة، هو سعيد المحروق المصاب بشلل في النصف السفلى من أثر حادث سيارة، من جاء مرحبا بنا، في اتقاده وحيويته لم نلتفت لمصابه الذي تجاوز العقد من الزمان.
هذا بعض ممن هو السعيد؛ المحروق، المنسي، في جوف الطين .

ومنذ ذاك كان لسعيد علي دين، ولازم أن أقدم له مايستحقه كمفكر وشاعر ومبدع جسور، كتبتُ عنه ما كتبت، لكن لشد ما شعرت بالغبن أن لا يُجمع ما كتب منجما بالصحف والمجلات والدوريات، ولم يصدر له قبل رحيله، غير ديواني شعر وقصص شعبية ليبية جمعها وأعاد صياغتها بلغته العربية، ومؤخرا بدأ أصدقاء من أحبته، وابنته أيضا، تجميع شتات ما كتب في مدونة على الانترنت، وطُبع له كتاب.

وكنت أثناء زيارة "فساطو"، حصلت على نسخة من كثير نتاجه، وقد نقلتها إلى مصر مخافة أن تضيع منى في بلاد القذافي غير الآمنة حتى الآن، وفي القاهرة آنذاك احتفظ بها الصديق الراحل هاني الكيخيا، من يحب الشاعر سعيد المحروق وحتى يحفظ شيئا من شعره، وكنا نزمع طباعة ما تيسر من نتاج المحروق، ولكن تأتي الرياح بما يشتهي المحروق. على أي حال في التو أنهيت إعداد كتاب لسعيد المحروق تحت اسم "ذاكرة الريح العاتية".

• ذاكرة الريح العاتية
يطالع القارئ بين دفتي الكتاب، جلّ ما نشر سعيد المحروق من دراسات ومقالات، منذ منتصف ستينيات القرن العشرين وحتى وفاته 1994، ويبقي من أعماله الكاملة الجانب الإبداعي، فله رواية ومجموعة من القصص القصيرة، مع كتاب ضم حكايات من الموروث الشعبي الليبي، بالإضافة إلى ديواني شعر وقصائد أخر. وهذا الكتاب، يجمع ما يبين المحطات الفكرية والثقافية لسعيد المحروق، ما أثاره كمفكر إشكالي، من حيث الرؤية الفلسفية المتعددة المنطلقات، ثم التعاطي الفكري مع المسائل الاجتماعية والسياسية والأدبية، وقد تناول قضايا عدة وفي مجالات مختلفة، وفي كل هذا كان حريصا على أن يكون صاحب الرأي المختلف والجديد، ولذا تفرد وأُفرد من الوسط الثقافي الليبي، لكن هذا ما لم يعجبه منحه حرية أن يكون، لهذا كان أيضا يعكس المرحلة، وإشكالاتها الفكرية والواقعية بخصوصية نادرة.

من هذا فإن الكتاب يمنح القارئ زاوية أخرى، لرؤية مرحلة فكرية وسياسية، ما حرص سعيد المحروق على أن يكون له رأي فيها، بنظرة لا مثيل لها، وقد اشتبك لإجل ذلك، في ومع المشروع الفكري والسياسي، ما ساد في تلك اللحظة الاستثنائية، ما بين عقدي الستينيات والثمانييات من القرن الماضى، ما جعل مما كتب مسبارا مسلطا بقوة ضغط عال،على المسائل التي انبرى لها وفي مجالات مختلفة. كذلك تبين تلكم المنشورات، أن شخصية المحروق تحرص على نشر ما يكتب كما حرصه على الكتابة، وفي هذا شغل بأسلوب ما يكتب، وبسبل النشر، في زمن صعب كانت يد الرقيب فيه تتغلغل في ذهن من يكتب وحتى من يفكر.

هذا الكتاب فيه يطالع القارئ، كتابات في مسائل كانت ساخنة وحارقة، ولكن كتبت بجرأة ووضوح وحتى بمباشرة، ما يجعل من الكتاب طازجا، ووثيقة في نفس الوقت لمرحلة، كما شابتها الانقلابات العسكرية، عصفت بتيارات فكرية متباينة ومتساوقة، ومن هذا تعاطي مع ما أعتقد أنها مسائلهُ ومسائل عصره.