Atwasat

وجع الحرب (2)

خديجة العمامي الأربعاء 13 نوفمبر 2019, 12:04 مساء
خديجة العمامي

الحرب كلها حزن وأسى، وما يزيد الحزن حزنا، أن يكون الأطفال في مقدمة الضحايا، آمال وأحلام كانت في خيال أطفال أم إبراهيم، عندما يكبرون، من سيكون الضابط الذي سيدافع عن بلده، ومن سيكون الطبيب الذي سيداوي جرحى المدافعين عن ترابها، ومن سيكون المهندس الذي سيعمر ما خربته الحرب. أسئلة دارت بخلدها، وخلد أطفالها، أجابت عنها قذيفة سقطت عليهم، وهم يلهون بحديقة بيتهم، فما تلك القصة المفجعة؟ وأين مكانها؟ وكيف دارت رحى الحرب فيها؟ أما المكان فهو منطقة بلعون بمدينة بنغازي، تلك المدينة التي رفضت أن تكون إلا مدينة، وطالبت بدولة تكون تحت حماية الجيش والشرطة.

فكلما تكبدت جماعتهم الخسائر أمطروا الأحياء السكنية بالقذائف، فلم تستثن البيوت والحدائق العامة من هدايا الموت، التي كانت تقدم إلى هذه المدينة الصامدة.

أما أبطالها فهم الطفل إبراهيم الذي فقد رجله، وإخوته الثلاثة الذين قتلوا وهم مريم وصالح ومحمد، ذنبهم الوحيد أنهم قرروا اللعب في حديقة بيتهم، في الوقت الذي كان الموت يتجول فيه بين أحياء المدينة.

الحرب لا تستثني الكبار ولا الصغار إذا ما اشتعل فتيلها.. فالأطفال كان لهم نصيب لا يقل عن البقية، والعصابات الإرهابية التي تمترست في أماكن مدنية مارست كل طقوس الانتقام من أهالي مدينة بنغازي، فحكاية الطفل إبراهيم وإخوته ليست الوحيدة، بل هناك الكثير من الحكايات التي سوف نتحدث عنها في قصص ثانية.

تتحدث أم إبراهيم عن ذاك اليوم المرعب، الذي أصبح جرحا عميقا غير قابل للشفاء، ولن يستطيع الزمان أن يداويه، ولن تستطيع الأيام انتزاعه من ذاكرتها، فتقول:

«أطفالي كانوا يلعبون مثل جميع الأطفال في العالم، غير مدركين ما يحدث في الخارج، معتقدين أن أسوار بيتنا كافية بأن تحميهم من قذائف الموت، التي تتساقط بين الفينة والفينة على البيوت، فبعد أن طلب مني أطفالي اللعب في حديقة المنزل، ورغم رفضي في بداية الأمر خوفا عليهم، إلا أنهم خرجوا يلعبون ويمرحون، وفي لحظة توقف عندها زماني وزمان أطفالي، سمعت صوت صفير القذيفة وسقوطها المريع.

ارتفعت فيه أعمدة الدخان الذي سبب لنا اختناقا قويا، أصبت لحظتها بحالة رعب كبيرة، منعتني من الخروج في الوهلة الأولى، خوفا من هول المنظر الذي في انتظاري، فقد أيقنت من أعماقي بأن القذيفة أصابت أطفالي، ورغم هذا خرجت فوجدت إبراهيم ملقى على الأرض ورجله مبتورة بجواره، وصالح يصارع الموت وينتفض، أما مريم فقد كانت تغوص في بركة من الدم، الذي يوحي بأن إصابتها قاتلة، ومحمد الذي هو أصغرهم لا حياة لمن تنادي.

كانت السماء تمطر بغزارة، رغم أننا كنا في شهر مايو، كأنها تشاركنا الفاجعة وتبكي معي على أطفالي، أسعفوا جميعا إلى مركز بنغازي الطبي، وعند وصولنا لا أريد أن أصدق بأنهم ماتوا، كيف ماتوا؟ وقبل لحظات كانت ضحكتهم تملأ أركان البيت، في تلك اللحظات كنت أرجو الله أن يعيشوا حتى وإن كانوا جميعهم معاقين، فقد أصيب صالح بشظايا في عينيه، وضربة قوية في صدره، ومريم كانت إصابتها من عند الأفخاذ، أما محمد فقد كانت إصابته قاضية، مات صالح ومريم ومحمد، أما إبراهيم فنجا بأعجوبة ولكنه عانى معاناة عظيمة في مركز بنغازي الطبي، ورغم صغر سنه، إلا أنه كان صبورا، غير أنه دخل في حالة نفسية صعبة جدا».

إبراهيم دائما يذكر إخوانه ويقول: «مش مشكلة رجلي انبترت يا ريت نفقد كل شيء بس يا ريت خوتي معايا»، فترد الأم محاولة أن تصنع من الصبر طوقا  لعبور هذه التجربة القاسية بأن لا تحزن، هم في حياة أفضل عند الله.

إبراهيم هذا الطفل الجميل الذي فرض عليه الصبر في أجمل مراحل عمره يقول إن وجعه الحقيقي ليس بتر رجله، أو نوبات الألم التي يتعرض لها، بل فقد إخوته. وما ربط على صدر الأم في يوم جنازة أطفالها هو عندما وصلت الجنازة إلى المقبرة، وضع الطفلان صالح ومحمد في قبر واحد، وكانوا سيضعون مريم في قبر بمفردها، غير أنه وصلت جنازة طفلة، فطلب والد مريم من أهلها أن تدفن مع مريم.

«أحسست براحة بأن مريم لن تكون وحيدة في قبرها»، تقول أم إبراهيم.
رحم الله أطفال بوجلدين ورحم الله شهداء ليبيا!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وجع الحرب (1)