Atwasat

بنغازي والصيف (5)

سالم الكبتي الأربعاء 14 أغسطس 2024, 12:14 مساء
سالم الكبتي

.. والصيف مرة أخرى. ويوليو مثله يمر. عز الحرارة اللهابة في بنغازي. وحوادث تنهض. تستيقظ من هدوئها وتستعر عبر الميادين والشوارع. النصال تتكسر على النصال. جمعية عمر المختار تظل عبر ذلك كله محلاً للريبة ومثاراً للشكوك. في كل المرات يقال ويتردد في جنبات المدينة وزواياها عقب كل حادثة تقع: ابحث عن الجمعية.. فتش عنها. تطلع بأنفك تجاه الرائحة التي تأتي منها وتنتشر.. فتش عن الجمعية.. ظل هذا الذي يقال أثناء نشاطاتها ووجودها ثم عقب إغلاقها وإيقافها قبل الاستقلال في نهاية 1951 وبعد ذلك أيضاً لأعوام مديدة. ودائماً يجري البحث عن الجمعية. تصادم ومواجهات وصراع يدور في المدينة تلك الأيام وما تلاها. كان للصراع طبيعته وأسبابه وآثاره وتداعياته. فتش عن الجمعية في بنغازي وما حولها. لا بد لها من أثر وبصمة تلحق بها.

غطى نشاطها كل شيء. استدعت الانتباه منذ تشكيل نواتها الصغيرة في الكيلو تسعة قرب أهرامات الجيزة. هناك حيث تشكل جيش التحرير السنوسي في عز الصيف.. في أغسطس انطلقت معه تلك النواة عبر المؤسس والجندي بالجيش.. أسعد بن عمران. أحد شباب بنغازي. مفعم بالوطنية والحماس منذ أيام الاحتلال الإيطالي.

كان يتحرك ورفاقه من خلال مجموعة اليد السوداء كما سموها لمضايقة ذلك الاحتلال. اقترب منه شباب المدينة. وكان له تنسيق وطني وعلاقات واسعة في طرابلس وغيرها. وعقب رحيله في مستشفى القلعة بالقاهرة أيام الجيش دفن في المقبرة الليبية في بورواش وترك الرسالة في عهدة آخرين من الشباب. كان يتردد عليه في المستشفى زميله فرج بالروين فسلمه ملف يحمل أسراراً ووثائق تتعلق بالتأسيس في المهجر عند تلال الكيلو تسعة وطلب منه تسليمه الى مصطفى بن عامر الذي أنجز المهمة وأكملها عند العودة إلى البلاد. جموع تشارك في المسؤولية. صدور النظام الأساسي في يناير 1942 وانتهى بموافقة الأعضاء في أبريل 1944. أعوام أربعة أنجزت التأسيس وتجهيز العمل الوطني لمرحلة النضال الآخر الصعب في طريق استقلال البلاد.

أسعد بن عمران كما تشير المصادر والروايات الموثقة عنه تكفلت بإعداده وطنياً مدرسة عمر فخري المحيشي. كان أسعد يعمل في مجال الشحن والنقل البري إلى مصر. كان يقود سيارات الشحن. كان من زملائه.. سالم حمد الكبتي الذي قتل في غارة مشهورة مع جموع من المواطنين من بينهم الشاعر المعروف بورويلة المعداني في يوم السوق بمصراتة العام 1943.

وأيضاً محمد مصطفى عميش وعلي بريبش وونيس قطيش.. وغيرهم من شباب المدينة الذين احترفوا فن السياقة والميكانيكا في تلك الأيام. أسر أسعد بن عمران في ميناء البردي يوم الخامس من يناير 1941 من قبل قوات الحلفاء وانضم إلى جيش التحرير وانفك من الأسر مع مجموعات من شباب الوطن. كان شاباً متنوراً ورأى حالات الجهل والتخلف تسود عقول مواطنيه داخل البلاد وخارجها في المواقع التي تواجد بها فاهتدى بذلك وبهذه المسببات والعوامل إلى تكوين الجمعية. كان هناك رأي بتسميتها باسم المجاهد أحمد الشريف ولكن تأكدت التسمية باسم المختار. نالت موافقة الأمير ورعايته. كان مصطفى بن عامر عاش في أجواء وطنية. والده الشيخ عبد الله بن عامر من رفاق أحمد الشريف القدامى وإحدى الفعاليات الوطنية التي أسهمت في لقاء زعماء المهجر الليبي شرقاً وغرباً وجنوباً في أكتوبر 1939 ووضع ميثاق العمل الوطني بحضور اثنين وخمسين رجلاً من ليبيا كلها الذين عقدوا النية على تحرير البلاد وأعادوا ثقتهم جميعاً في شخص الأمير إدريس السنوسي امتداداً لبيعات سابقة وللمضي في مرحلة الطريق القادمة المليئة بالعثرات والمصاعب. كان لا بد من التحالف مع الحلفاء. والتنسيق معهم. تلك ضرورة لازمة تستدعيها الظروف. الدول الكبرى فعلت ذلك وتحالفت وتوافقت وتعاهدت في أزمنة سابقة منذ الحرب العالمية الأولى وحروب وظروف دولية أخرى. وأكدت ذلك أيضاً وسط دخان الحرب الثانية من 1939 إلى 1945. التحالفات ستستمر بلا توقف وسيشهدها العالم على الدوام نصرة لضعيف أو لقوي ظالم معتوه. والأيام المعاصرة دليل على هذا الذي يدور ويطحن البؤساء قبل الأشداء والأقوياء.

الصيف يمر كما قلنا ومعه تلتهب السخونة في المكان والزمان والبشر. والجمعية تنطلق وتتحرك في كل الاتجاهات. أنشطة. جرائد. مظاهرات. رياضة وكشافة ومواجهات مع الإدارة العسكرية والحكومة المحلية. ترفض الفيدرالية ومشاريع التقسيم وتلتقي في شخص الأمير رغم نقاط الاختلاف في بعض الأمور معه. لم يواجه شبابها الأمير بحدة سوى في يوم إعلانه استقلال برقة في الأول من يونيو 1949. الصيف يفعل فعله. الأمير غضب من شرفة قصره.. المنار. توعدهم بتركهم والعودة إلى القصر والتوقف عن إلقاء خطابه إذا لم تتوقف الهتافات الحادة والكلمات الغاضبة الرافضة لذلك الاستقلال. قال.. تسكتوا والا نسيبكم. احترموا رأيه وأعلن ما أراده كخطوة لاستقلال ليبيا بالكامل فيما بعد.
وعلى الرغم من هذه الأجواء اللاهبة في كل الأوقات كانت الجمعية هي الصوت الوحيد الرافض لكل المشروعات التي تعوق طموحات العمل الوطني المرتقب على حد رأيها. اعتمدت على حماس الشباب ونشاطهم وحراكهم. حين وصل إدريان، بلت مبعوث الأمم المتحدة، نبه الجمعية إلى ذلك ونصح رجالها بأن يتألفوا ويضمنوا الشيوخ والكبار من جيل الأمير أو جيل والده تحقيقاً للنجاح وعدم الاصطدام بهم. وأشار إلى أن تجربة الجمعية المماثلة في درنة وفقت جداً في اختيارها لعلي باشا العبيدي رئيساً لها. في بنغازي نجحت الجمعية في ضم بعض هؤلاء الشيوخ والأعيان وفي مقدمتهم مجاهد قديم من رفاق أحمد الشريف. هاجر إلى تشاد وعاد وهو سليمان رقرق. كان متعاطفاً مع شباب الجمعية وقادتها ونشاطاتها في مواجهة كبار آخرين كانوا على الدوام محل ثقة الأمير واهتمامه. نقاط اختلاف واضحة أدت إلى شروخ كان بالإمكان ألَّا تنزلق إليها الجمعية حتى تنجح في تجربتها الوطنية باستعمال المرونة وتوخي اختيار الخطوات الكفيلة بالوصول إلى أهدافها. لكن الحسابات المنتظرة لم تحدث ولم تجئْ ببوارق أمل. ظلت الجمعية محل شكوك على الدوام ونشأ عن ذلك العديد من المشاكل مع السلطة رغم أن كثيراً من رجال هذه السلطة كانوا يقدرون ويحترمون قيادات الجمعية ممثلة في بعضهم (مصطفى بن عامر ومحمود مخلوف وسواهما).

صيف 1951 البلد تقترب من الاستقلال. و"الوطن" الجريدة التابعة للجمعية تناكف السلطة البريطانية والحكومة المحلية. الصراع لا يتوقف. والتقارير والوشايات لا تتوقف أيضاً. يحل بشير السعداوي ضيفاً على الأمير ويلتقي أصدقاءه في الجمعية. يقيم في فندق فينسيا قريباً من قصر المنار. في لعبة أمنية مشاكسة أحد أفراد المباحث بتعليمات صدرت إليه يحاول الاعتداء على السعداوي. يرمي قنبلة تجاهه. ينجو من المحاولة. والأحداث تتفاعل في بنغازي وطرابلس. ثم يغمرهما الهدوء.

في يوليو الغليان لا يهدأ. هناك في الشرق البعيد اغتيال رياض الصلح ثم الملك عبد الله الأول. تداعيات تستمر. تجد هوى وتأثراً لدى الكثيرين من الشباب. ذلك الصيف تمنى شاب من درنة يتعاطف مع نشاط الجمعية ويدرس في القاهرة أن يحدث ما حدث هناك للأمير إدريس هنا في بنغازي. يتم إبعاده إلى الكفرة. يقضي شهوراً هناك. يتقدم بالتماس واعتذار. يتم العفو عنه ويواصل دراسته إلى تخرجه في كلية الاقتصاد بجامعة القاهرة.

في الثامن من يوليو تنفجر في عز الصيف والحرارة مظاهرات صاخبة يقوم بها حوالي ستمئة عضو من الجمعية أغلبهم من شبابها. يعتدون على بيت رئيس الحكومة محمد الساقزلي. ودار المعتمد البريطاني دي كاندول. تغلق الجمعية. يعتقل قادتها. وبعض شبابها. التهور والحماس يقودان إلى التهلكة في العمل السياسي على وجه العموم. أيام يوليو تلك وتداعياتها.. لها قصة وحكايات وقصائد ينبغي أن تروى. خيوط من التاريخ ملونة وسوداء لكنها في الغالب تلوح ضاربة بجذورها في أعماق قادة الجمعية. تقول تقارير السلطات البريطانية أنه لا ينتظر منه التخلي بسهولة عن المبادئ التي يتشبثون بها. التجربة والخطأ. الفكرة لا تموت. وقصة يوليو تظل ماثلة أمام الأبصار تلك الأيام البعيدة وما تلاها من أيام ولحظات. إنه التاريخ.

مقالات الرأي تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي «بوابة الوسط»