في «حي الظهرة بطرابلس» وفي تسعينيات القرن العشرين، كنت أقف مأخوذا بحضورها، حضور الأنثى، حضور تلك الخصوبة وذلك الوهج الشفيف، حضور الشباب والعافية وسط ضجيج مقهى طرابلسي، كانت «الفتاة أمام المرآة» التي رسمها بيكاسو في ثلاثينيات القرن العشرين تقف وأمام مرآتها الليبية وقد نسخها رسام ليبي مجهول، على بار المقهى الطرابلسي، بحي الظهرة.
رواد المقهى ينقسمون إلى جيلين متناقضين تماما. شيوخ مرهقون يعانون الفراغ والأمراض واللامعنى، يجلسون إلى طاولات المقهى محدقين في الفراغ، وشباب يقفون أمام بار المقهى يستعجلون الحصول على قهوتهم ويلقون بنظرات سريعة إلى الشيوخ واللوحة. كان المقهى ينتصب وسط حديقة مواجها لعمارات قديمة محاطا بأكوام الزبالة، فليس المقهى والحديقة إلا مكب زبالة لتلك العمارات، كانت العمارات تتأمل المقهى وكان المقهى يعج بالضجيج والقلق والتوجس واليأس.
كان «حي الظهرة»، وكان الرسام الليبي وطرابلس وليبيا كلها يقفون أمام «المرآة» ويتأملون أنفسهم وصورتهم في الحياة والفن تلك اللحظات، كانت القشرة تكشط ويتجلى اليأس والتعب والشيخوخة، كان الفن وعلى ما يبدو يحاول أن يتلمس وأن يرى. كانت ليبيا وفي تسعينيات القرن الماضي، قد بدأت تنفتح على العالم بعد فترة طويلة من الانغلاق والحصار، فالمحلات التجارية فتحت بعد إغلاق طويل وكذا المقاهي والمطاعم، والحدود فتحت والصبح أصبح من جديد، وكذا بدأ الرسام الليبي ينسخ «فتاة بيكاسو أمام المرآة».
كانت نسخة أخرى للوحة بيكاسو، هي بالتأكيد مشروع تدريب ودراسة، ربما لطالب من كلية الفنون.وسط الضجيج لم أتبين فعل الليبي باللوحة، ولا شيئا جديدا ولافتا إضافة لذلك العمل، إنها ليست إلا محاولة للنقل وللفهم بالتأكيد. «فتاة بيكاسو أمام المرآة» التي قابلتها بمقهى «الظهرة» بطرابلس في نسخة ليبية ونسيتها لسنوات طويلة، تذكرتها منذ فترة قريبة وأنا أقرأ كتاب «أمبيرتو إيكو» عن تاريخ الجمال، ثم عن تاريخ القبح، فهي تلخيص بديع كما أرى لهذا التاريخ.
تنقسم اللوحة إلى نصفين، في اليسار تقف الفتاة جميلة وخصبة وعفية وتشع أنوثة، أما في النصف الآخر من اللوحة فتقف المرآة وفيها صورة الفتاة، وهي متجهمة ومتعبة وحزينة. إنها صورة الفتاة كما تبدو في الواقع وكما لا ترى نفسها في نصف اللوحة الأول وصورتها في المرآة كما ترى نفسها أو كما تحس وتدرك وجودها في النصف الثاني من اللوحة، أو ربما كما هي في الواقع جميلة ومشعة وكما تنعكس أو تظهر صورتها في اللوحة «المرآة» حزينة ومتجهمة.
هي ربما أيضا نزع القشرة الجميلة الخارجية لوجودنا وذواتنا وإظهار ما تحت تلك القشرة من عذابات ومخاوف وأوهام والتي يقوم بها الفن للكشف والمعرفة أو هي وربما أيضا نزع لقناع البؤس عن حياتنا يقوم به الفن ليظهر جمالنا الذي تخفيه همومنا وآلامنا.
فن القرن العشرين، كان وكما كان القرن العشرون، فن الخروج من القوالب والصيغ الجاهزة، رؤية العالم والحياة والإنسان من خارج شباك اللوحة المعتاد، النظر من زوايا متعددة من أجل رؤى متعددة تثري البصر والبصيرة، كان ذلك النسخ للوحة بيكاسو على بار مقهى بالظهرة بطرابلس، محاولة وعلى هامش كل الضجيج والألم لرؤية طرابلس لنفسها ورؤية الفن لها، رؤية العمارات للمقهى الجديد ورؤية المقهى الجديد للعمارات ولنفسه وللحديقة، نظرة الشباب القلقة والمستعجلة للشيوخ والمقبرة ونظرتهم لذواتهم ومطامحهم، وكل ذلك ليس إلا ما رأيت أنا للوحة المنسوخة ولطرابلس وليبيا في تلك اللحظات عبر بيكاسو المنسوخ.
مقالات الرأي تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي «بوابة الوسط»
تعليقات