Atwasat

وعن القبح أيضًا

منصور بوشناف الخميس 01 أغسطس 2024, 10:27 مساء
منصور بوشناف

في «تاريخ الجمال» يفرد «أمبيرتو إيكو» جزءًا «لتاريخ القبح»، ليس كمقابل ونقيض للجمال بل كرديف وكمبرر وجود له، فلا يمكن إدراك الجمال دون وجود القبح.

«إيكو» يقول إن الفلاسفة والفنانين ظلوا يقدمون تعريفات وتواريخ وينتجون أعمالًا بصرية فنية لذاك الجمال، على عكس «القبح» الذي لم يحظ بذلك الاهتمام، رغم حضوره في الآداب والفنون، فلم يخلُ الفن عبر التاريخ من صور وتصورات للقبح، تلك الصور والتصورات عن القبح، كانت تتغير من عصر لآخر ومن حقبة لأخرى وتحكمها بالتأكيد عوامل وتحولات اجتماعية وثقافية مثلها كمثل صور وتصورات الجمال.

اليونانيون كانوا وعبر فلسفتهم وأعمالهم الفنية يحاولون وضع معايير ومقاييس للجمال ليكون القبح «نقيضها التام»، لذا وحسب «إيكو» فإن كتابة تاريخ القبح كانت ستكون أكثر إثارة وظرفًا، فالجمال كان محكومًا ومحددًا بمقاييس ومعايير محددة، وكان على العمل الفني أن يتقيد بتلك المقاييس والحدود، إن «الجمال» محدد ومقيد على عكس القبح «المنفلت»، «الجمال» نسبي ومحدود أما القبح فمطلق وطليق من كل التوقعات.

كان «الجمال» هو العدل وهو الحق والسلام وهو التناغم والتناسق، هو القوة والرحمة، كان كل تلك القيم المطلقة، ولكن الفنانين والفلاسفة عندما يرسمونه أو يتصورونه فإن الحيز والفضاء والضرورة تعين ذلك المطلق في المحدود والنسبي لذا وضعوا التوازن والتقابل والتناغم والتناسق كمعايير لتصوير «الجمال» واختاروا الجسد البشري كمثل لكل تلك «الجماليات».

«القبح» كان موجودًا في الفنون والآداب اليونانية بالتأكيد وتجسد في المسوخ والقوى الشريرة ووجوده كان العامل المهم والأساسي لبناء دراما التاريخ والقدر وصراع الخير والشر والإنسان والقدر، إن نماذج ورموز الجمال بمختلف محمولاته ما كانت لتنال معناها ومعنى وجودها دون وجود قوى القبح تلك.

النقلة المهمة في الفن والأدب في تصوير الجمال كانت مع «الرومانتيكية» التي التفتت إلى نماذج أخرى للجمال غير النماذج القديمة، غير الآلهة والملوك والحوريات، بدأت في تصوير العامة من الفقراء كنماذج للجمال، نماذج ظلت في مراحل الفن والأدب القديمة نماذج للقبح.

المثل الأوضح لهذا النزوع كما يقول «إيكو» كان «كوازيمودو» أحدب نوتردام هذا المشوه الممسوخ الذي كان نموذجًا للقبح، صار وبالرومانتيكية نموذجًا للجمال.

أو ربما نموذجًا لتوحد القبح والجمال وتفاعلهما في كائن واحد هو الإنسان الذي تصارع روحه النقية تشوهات الجسد والطبيعة والواقع الاجتماعي.

في الفن الحديث، فن القرن العشرين كما يرى «أمبيرتو إيكو» في تاريخ القبح، ورغم طغيان تصوير القبح فإن نماذج الجمال القديمة ظلت تسيطر في فنون الدعاية والهندسة المعمارية وتخطيط الحدائق والصناعة إلى جانب الأعمال الفنية، إننا نصل إلى تكامل وشمولية نظرة ومعالجة الفن للقبح والجمال وذوبانهما في الفن كما هما في الحياة والواقع.

إننا نشاهد نماذج الجمال، شبيهات «مؤلهات الجمال» القديمة تسعى في شوارع وعلى مسارح المدن الحديثة، ونشاهد على شاشات التلفزيون الجوعى والقتلى والمغتصبات في الوقت نفسه، إن الجمال والقبح ينصهران في واقعنا ويرسمان لوحة «المتعة والألم»، إن تمثال «أنجلو ـ داود بمقلاعه» الذي ظل مثلًا أعلى للكمال والجمال حين كنا نراه يقف متناسقًا وجميلًا وحده ومقلاعه على كتفه، صرنا نراه في نصف كادر كاميرا الأخبار وفي النصف الثاني من الكادر جثت أطفال ونساء غزة وقد مزقها مقلاعه.

إن الفن في القرن العشرين بمختلف تياراته حقق مع العلم والتطور والاختراعات ذلك الشمول، ذلك الإحساس والفهم لواقعنا «الجميل القبيح» كما هي الحياة دائمًا.

إن واقعية جديدة لا تعني «التصويرية الخارجية للحياة» كما كان تصورنا للواقعية، رسختها تيارات الفن الحديث، ليبدو «هذا اللاواقع هو الواقع بعينه» كما يقول «أرنست فيشر» ولتكون «غورينكا ـ بيكاسو» أكثر واقعية من فوتوغراف الصحافة، ولنقسم كادر الكاميرا الليبية إلى نصف كادر لطرابلس ـ بالبو الجميلة والنصف الآخر لطائرة بالبو الحربية وهي تطارد وتقصف قوافل الليبيين في الصحراء وتفتت أجساد الأطفال والنساء والرجال الليبيين.

مقالات الرأي تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي «بوابة الوسط»