Atwasat

منطلقات (الجابري) الفكرية في نقد العقل العربي! (7-8)

سالم الهنداوي الخميس 28 مارس 2024, 07:46 مساء
سالم الهنداوي

انتهت الألفية الثانية بنهايات أسئلة مفكّري تلك الحقبة الغنيّة بتلاقحات التراث والحداثة، وغاب عن الساحة الفكرية العربية من يثير مزيد الأسئلة في مشروع فكري مستنير نال القدر الكبير من السِجالات الثقافية بين مختلف التيارات الفكرية منذ مراحل ما قبل التنوير إلى النهضة والحداثة، ليكون مشروع "ما بعد الحداثة" مرتبطا راهناً بالتجربة الغربية التي أغنت المفاهيم المنهجية بنظريات النقد المعاصر، فتراجع مفهوم الحداثة العربية ليتوقّف عند "التراث" العربي بما يحمله من تراكم معرفي وتاريخي أصولي خصب، وهو المشروع الخام الذي أصبح بالضرورة يحتاج إلى قراءات نقدية جديدة تعيد للفكر العربي وتراثه تلك القيم الحضارية التي خسرناها برحيل عمالقة الفكر العربي.

لعلّ أبرز مشروعيْن فكرييْن قدّما قراءة واعية للتراث في فكرنا العربي هي قراءة مشروع "التراث والتجديد" لحسن حنفي، وقراءة مشروع "نقد العقل العربي" لعابد الجابري. وكان على الدراسة أن تجيب آنذاك على مجموعة من التساؤلات الملحّة، وهي: هل العودة للتراث كان أداة للاحتماء بالتراث والتاريخ؟ وهل ثمّة ممارسة لنقد ذاتي في قراءة التراث؟ وهل الانطلاق من التراث هو سبيل النهضة أم أن التراث هو السجن المقيِّد لحركة الأفكار في ثقافتنا العربية؟ وما مدى مسئولية التراث عن تخلُّفنا؟ وهل فعلاً أن مجتمعاتنا الشرقية هي مجتمعات يحكمها السّلف وهُم في قبورهم، وليس للخلف سوى الإذعان؟ وكيف أسهمت المنهجيّات الغربية الحديثة في تقديم قراءات جديدة للتراث؟ هل كانت هذه المنهجيّات عاملاً سلبياً أم إيجابياً، عامل هدم أم بناء؟.. تساؤلات كثيرة تُطرح في معالجة قضية التراث في الفكر العربي المعاصر بعامّة، وفي مشروعي "التراث والتجديد" و"نقد العقل العربي" بصفة خاصة.. وكان من التساؤلات ما هو مسكوت عنه فكرياً لطائلتها المحرّمات الدينية والسياسية في حاضرٍ يؤسف له في خضوعه لإرادات سياسية عاجزة فكرياً وغير قادرة إدارياً على الفعل والتغيير.

يؤلمنا، اليوم، موت المثقّف "النافع" كما تؤسفنا حياة السياسي "المنتفع" في عالم لم يعُد قادراً على استعادة البراءة من يدي وحوش السُّلطة المستبدّين ومن عقول سياسيين انتهازيين، خاصة بعد انتفاضات ما سُمّي بثورات "الربيع العربي" القفزة التي كانت في الهواء بلا قيادة فكرية وطنية نافعة تُدرك أن حجم "الجهل" كان يفوق حجم "البطالة" في أنظمة عاشت على فقر شعوبها وأمراضها المزمنة.. فعند هذه "الثورات" التي قادتها العاطفة بإرادة عاقلٍ واحدٍ فقط هو "الاحتياج" لا "الظرف"، كان مبدعو فكر "التنوير" قد ماتوا ورحلوا عن الدنيا في أثناء أزمات تلك الأنظمة، ولم يكن نتاجهم الفكري عاملاً أساسياً ولا حتى ثانوياً قائداً لفكرة التغيير من الأساس، ذلك التغيير الذي جاء من الخارج متآمراً على التراث العربي ليُنجز عشوائياً في الداخل ما أهملناه من تراثنا العربي، وليكون بالتالي النتاج الحتمي الذي أضاع النهج والمنهج معاً.

لم يعش المفكر والفيلسوف المغربي "محمد عابد الجابري" ليعاين انتفاضات الربيع العربي ونتاجاتها التي خالفت "العقل" على أرض الواقع، وكان قد أسهم جدّياً في دراسة تلك المجتمعات وبنائها الفكري، بل ومساءلة عقلها ونُظم تفكيرها وإنتاجها للمعرفة وعلاقتها بالتراث وقيم الحرية والمواطنة.. ولقد عاش مهموماً بسؤالٍ مركزي هو البحث عن "مكمن الخلل في العقل العربي وأسباب تأخُّره في تحقيق النهضة التي ينشدها منذ قرون".

في إلمامة بحياته وفكره تقول الباحثة المغربية "سارة آيت خرصة" إن هذا الشغف عند "الجابري" بتحليل الثقافة والموروث العربي الإسلامي، قاده لإصدار مؤلّفات ركّزت معظمها على ثنائية "الحداثة والتراث"، لينكبَّ بعد ذلك على صياغة مشروعه الفكري "نقد العقل العربي" في ثلاثية حاول عبرها أن يدرس أنماط اشتغال هذا العقل وبنيته وظروف وتاريخ تكوينه السياسي والأخلاقي.. فأطروحة الجابري في نقد العقل العربي وتفكيك بنيته الثقافية، تعد من أهم تلك الأطروحات التي ظهرت في بداية ثمانينيّات القرن الماضي، وتأتي تتويجاً لسلسلة من الإنتاجات الفكرية التي كانت محكومة بذات السؤال الحداثي "نقد التراث والفكر العربي"، وكانت إرهاصات النقد عند الجابري تتحدّث عن نفسها في كتابه "نحن والتراث"، ففي ذات المؤلّف وضع الجابري اللبنة الأولى لمشروعه الفكري "نقد العقل العربي".

يقول المفكر والفيلسوف المغربي "محمد سبيلا": إن الجابري لم يكن مفكراً عقلانياً أو باحثاً في التراث العربي الإسلامي فقط، لكنه كان معنياً بنقد مجتمعه الذي فشل في بناء دولته الوطنية، ومردُّ ذلك عند الجابري تاريخ العقل السياسي العربي الذي ما يزال يعيش في حقب الأنظمة السلطانية".. وأضاف "سبيلا" أن الجابري خلال مسيرته الفكرية، حاول أن يجسِّد نموذج المثقف المشغول بواقع مجتمعه، فابتعد عن التعامل مع السُّلطة، وانعزل بعد أن خاض معارك ثقافية وسياسية، ليدوِّن أطروحته التي تعبِّر عن رؤيته الخاصة لمسار بناء المجتمعات العربية لذاتها، وعلاقتها بتراثها من حيث هو الماضي الذي يطل برأسه في كل حين على الحاضر ويُسهم في صياغة لحظته الراهنة".

وإذا كان الجابري قد انطلق فكره من وعيه بتراثه العربي وبالمُنجز العقلاني عند ابن خلدون وابن رشد اللذين درس فكرهما فكان امتداداً لرؤيتهما في النهج والمنهج والعطاء، وقد ناله ما نالهما من إحباطٍ ألقى به كما ألقى بهما في مكتبة "السلف" دون اكتمال مشروعه الفكري المبني على حاجة المجتمعات لمستقبل يحتمي بموروثه ولا يسقط في التبعية لفكر الآخر.. وفي تلك الحقبة من النشوء الفكري بسؤال العقل العربي، وإلى جانب كتابات نقدية أخرى عاصرت كتب الجابري "كالإيديولوجيا العربية المعاصرة" لعبد الله العروي، و"نقد العقل الإسلامي" لمحمد أركون، يُعد مشروع نقد العقل العربي للجابري إحدى أهم الأطروحات الفكرية التي عالجت الواقع العربي، لكن بعض المفكرين يعتبرون أن الجابري المتّهم بـ"الانحياز للطرح القومي العربي"، كان يهدف إلى "توجيه نقد مباشر للموروث الإسلامي وإلى الدعوة إلى إعلان القطيعة مع التراث لا إلى إعادة قراءته وتمحيصه كما يصرح بذلك بين أسطر كتاباته".. في المقابل، يذهب مثلاً المفكر الجزائري "محمد أركون" إلى اتهام الجابري بالعمل على "تكريس الاستهلاك الإيديولوجي للتراث"، فتجديد التراث والخروج من المأزق الحضاري العربي لا يمر، حسب أركون، إلّا "عبر نقد العقل الديني والفكر الإسلامي"، فيما رأى الكاتب المغربي "عبد الله ساعف" أن الساحة الفلسفية على وجه التحديد في المنطقة العربية، خسرت برحيل الجابري قلماً ساعد في تحليل المجتمعات العربية من منظور تنويري، وأعاد التفكير في السؤال الفلسفي بعد سنوات من الجمود.. لقد استطاع الجابري أن يتجاوز الحدود الإقليمية وعرّف بنفسه كعربي عابر لمختلف القوميّات، رغم أصوله الأمازيغية المغربية، لأن سؤال النهضة بحسب الجابري نفسه: لا يعترف بالحدود القُطرية!

رفيق دربه الفكري في "حوار المشرق والمغرب" الراحل المصري الكبير "حسن حنفي" كتب في رحيل الجابري: "لا يوجد مفكِّر عربى إلّا وتأثَر بالجابري، إيجاباً أم سلباً، ولا يستطيع واحد منهم أن يملأ فراغه بعد رحيله، وهو الفرق بين الكوكب والنجوم أصبح يمثِّل الفكر العربى المعاصر، يُشار إليه داخل الوطن العربى وخارجه، فى العالم الإسلامى وفى العالم الغربى".. واستكمل حنفي: "عُرف الجابري بمشروعه النقدى الثلاثى "نقد العقل العربى" ولأول مرة يُستعمل لفظ "نقد" كما استعمله "كانط" فى القرن الثامن عشر بعد قرنين من النهضة، السادس عشر ونزعته الإنسانية، والسابع عشر ونزعته العقلانية، وأول مرة يُستعمل لفظ "العقل" كما استعمله الأنثروبولوجيون الفرنسيون مثل "ليفى بريل" ووصفه بالعربى ومضمونه إسلامى"، وتجمع ثلاثيته بين كانط وهيجل معاً، العقل النقدى والعقل التاريخى، فالعقل النقدى هو تراث الأمة وإنتاجها الفكرى، أى تاريخ وعيها كما فعل هيجل فى "ظاهريات الروح"، التكوين يسبق البنية، والبنية نتاج التكوين. والعقول الثلاثة، البيان والعرفان والبرهان، هى عصور تاريخية، القرنان الأول والثانى، ثم القرنان الثالث والرابع، ثم القرنان الخامس والسادس. وهى شبيهة بالأقاويل الثلاثة عند ابن رشد، الخطابة والجدل والبرهان. وابن رشد هو العزيز على المغرب، يتوحّد المغاربة به.. و"العقل السياسي" تطبيق للثلاثية التي تُرجمت إلى الفرنسية وأصبح يُشار إليه كلما أشير إلى الفكر العربى المعاصر".

فى أوائل التسعينيّات صدر "حوار المشرق والمغرب" بين المصري "حسن حنفي" والمغربي "عابد الجابري" على صفحات مجلّة "اليوم السابع" التي كانت تصدر في باريس في ثمانينيّات القرن الماضي، وكان الحوار يُقرأ فى شتّى أرجاء الوطن العربى، وهي المرة الأولى التي يتحاور فيها العرب "مشرقه ومغربه".. واستأنف التقليد فى "دار فكر" بدمشق على نحو آخر، وقد تُرجم الحوار إلى اللغات الأجنبية وأجريت عليه عديد الرسائل الجامعية كنموذج لحوار العرب وليس لخصامهم، الأبرز على الساحة.. وبالرغم من الحُكم على الجابري بأنه من أنصار القطيعة المعرفية تحت أثر "فوكو" إلّا أنه تعلّم فى دمشق، وعشق القاهرة، وهو صاحب مقولة "لقد تمشرق المغرب وتمغرب المشرق" لبيان وشائج القربى بين جناحى الوطن العربى، أو بين وسطه ومغربه".

.. لم يكن يوماً فقيراً هذا "الوطن العربي" بمفكّريه الطليعيين، عبر أزمانٍ من التضحيّات والتحدّيات الجمّة من أجل الحرية والعدل ونيل الاستقلال من أجل المستقبل، لكن ذهبت الأنظمة العربية بسياساتها إلى الاكتفاء بالسُّلطة عبر دولبة القوانين الوضعية بدساتير النظام، فذهب الفكر إلى حال سبيله ضمن كم المراجع في الجامعات، كنظريات غير قابلة للتطبيق، فيما هي الأفق الذي بدوره يحمي المجتمعات ويقيها الاغتراب عن هُويتها التي هي ضمان مستقبلها الوحيد، ولتتأكد الأنظمة العربية بأن استعارة "الديمقراطية" من الغرب لا يكفل استمرارها ولن يفقد المجتمعات العربية تراثها الفكري، وإذا كان حوار الحضارات سبيل تقارُب بين شعوب القارّات، إلّا أنه لن يكون الوسيلة التي تلغي الوجود العربي وهُويته الثقافية.