Atwasat

وما هو بجميل

صالح الحاراتي الخميس 28 مارس 2024, 02:45 مساء
صالح الحاراتي

«الزمن الجميل» عبارة سائدة ومتكررة بشكل كبير في منظومة الكلام عندنا، بل إنها عبارة تشغل مساحة باذخة في التعابير المتداولة وصفا وتعليقا على زمن مضى..

والزمن الجميل قد يبدو أنه «نوستالجيا» وعواطف لمرحلة الطفولة عندما كانت العقول حرة وغير مقيدة بمحددات المجتمع الدينية والثقافية والتقاليد والإكراهات التي لا حصر لها.. وربما كان حنين النفس إلى براءتها.. وأنه زمن تمني عودة الإنسان إلى طفولته وشبابه وحيويته، رغم حقيقة أن ما مضى لن يعود، ولكني أظن أن هذا الأمر ليس بسبب كل ما ذكرته أعلاه وإنما في تقديري هو نتاج رؤية العقل السلفي الجمعي، المسؤول عن تكرار وتسويق هذه الجملة بسبب أنه يعيش حاضرا هو العاجز عن فهمه والتفاعل معه أو تغييره، إضافة إلى انعدام الأمل وسوء حال الواقع وعدم التوق للمستقبل وغياب الرؤية المستقبلية.

ذلك ما يدفع الناس إلى قبول دعوة الهروب إلى الماضي القريب أو البعيد لعل به بعض السلوى.

غالبا ما يتم التعبير عن الزمن الجميل بالحسرة والتباكي والمناحة، على زمن مضى، ولا يذكر المتباكي إلا ما يريده من بعض الإيجابيات، لا جميع ما حدث خلاله، فهو يغفل ويتناسى هنا أن في ذلك «الزمن الجميل»، هناك من اضطُهِد فيه وظلم بسبب فقره أو لونه أو عرقه أو موقفه أو رأيه السياسي ولا يرى ما مضى باعتباره «زمنا جميلا».

إنسان الماضي والزمن الجميل لا يرى ولم ينتبه - بحكم العادة - إلى ما تفعله المنتجات والأجهزة الحديثة التي ساعدت الإنسان في العيش بطريقة أفضل.. ولا يستحضر عقله مثلا الأمراض والأوبئة التي واجهها إنسان اليوم بما يعرف بالمضادات الحيوية والتطعيم الذي قضى على الكثير من الأمراض، بينما في زمنه الجميل كان الإنسان يفارق الحياة لأتفه الأمراض والكثير من الأوبئة، كان مرض السل والجذام يفترس الناس بلا أي وسيلة مقاومة، وكان مرض التراكوما حالة عامة، ناهيك عن الحشرات الضارة واسعة الانتشار كالقمل والبق.. إلخ.

الحقيقة أننا نعيش عيشة لم يعشها أو يحلم بها أجدادنا، ولكننا لا نعرف كيف نتجاوز واقعنا المكبل بالإكراه والقيود.. فالحضارة الحديثة حضارة استثنائية في مسيرة البشرية؛ ومع ذلك هناك من يريد العودة بنا ويحن لما يسميه الزمن الجميل.. بل هناك من يريد جرنا إليه إكراها بالسلاسل.

إن قبول تلك العبارة الرائجة يتم من خلال تزييف الوعي الجمعي وتضخيم وتهويل وقائع وأوراق التاريخ التي تبنى على الزيف و(النوستالجيا)، وتتحول مع الزمن إلى عامل تخدير خطير يقتل أي سعي للتعامل الإيجابي مع الحاضر أو المستقبل.. فالمجتمع الذي لا يناقش واقعه بالمكاشفة والشفافية لن يصل إلى شمس الغد، وسيظل على هامش الحياة لأنه يلتفت إلى (أمس) خادع للوعي، حيث لا قيمة للتاريخ في تقديري إلا لو كان بغرض الاستفادة والتعلم وأخذ العبر ولن يجدي اجترار أحاديث الفخر بالماضي ونوستالجيا ما يسميه البعض بالزمن الجميل..

إن الواجب الملح هو مراجعة ماضينا والاعتراف بما فيه من نقائص وأخطاء والعمل على بناء الحاضر بجهد الأحياء وليس الاكتفاء بالحنين لما سميناه «زمنا جميلا».
على كل حال... رحلتنا في البحث عن مفتاح التطور ما زالت مستمرة!