Atwasat

التنظيمات السرية في الجيش الليبي 1952-1969 (11)

سالم الكبتي الأربعاء 27 مارس 2024, 01:49 مساء
سالم الكبتي

أخذ الجيش، مع تنامي التنظيمات السرية خلاله وإن لم تحقق أية نتائج وانتهت في معظمها بالفشل الواضح، في الوقت نفسه يشهد المزيد من تسرب التأثر السياسي والوعي الاجتماعي لدى صفوف ضباطه وحتى عند مجموعة من ضباط الصف أيضًا. كان من المستحيل أن يبقى خارج نطاق الظروف التي يعيشها وتسود البلاد والمنطقة بوجه عام.

وبمرور الأعوام ومع تدفق الكثير من المجريات عبر كل الأنابيب المتاحة، مثل مياه الأنهار، سواء على مستوى قياداته أو أفراده من الضباط ذوي الاتجاهات المختلفة.. مستقلة كانت أو غيرها توالت أحداث ونشأت تطورات لا يمكن عزلها عما يدور تحت السطح أو فوقه. فقد ظلت كل الأمور واضحة ومفهومة بأن هناك (تنظيمات) تعمل داخل الجيش بقوة وتود التمكن من السلطة والتغيير. وبلغ الأمر مداه بما حدث في يونيو 1967 من هزيمة عسكرية فادحة أصابت ثلاثة جيوش عربية دفعة واحدة في مدة استغرقت ستة أيام فقط.

ذلك كله حقق شرخًا وانكسارًا واضحين في نفوس العسكريين العرب بصورة عامة وأشعرتهم بالمهانة والإحباط أمام جيوشهم وشعوبهم وطارت أسئلة لم تتوقف عن أسباب الهزيمة أو النكسة ومكامن الخلل في الأمة. هل كانت أسبابها عسكرية أو فكرية أو سياسية أو نفسية؟ فيما اعترف الكثيرون بأنها نتيجة لذلك كله، للأسف الشديد.

كان لابد أن ينعكس هذا الذي حدث في الأمة المكلومة على الدوام في صفوف الجيش الليبي وعلى وجه الخصوص لدى ذوي التيارات القومية داخله. كانت ترى بأن الرجعية التي تسود المنطقة على رأيها هي في مقدمة أسباب أية هزيمة وانتكاسة ولابد من اقتلاعها من الجذور. إن الأرض السليبة منذ زمن وما أخذ بالقوة بعد ذلك يبدأ أولًا بتحرير الأجيال العربية وأوطانها من الأنظمة الرجعية البالية التي تشد إلى الوراء. ليس ثمة حل آخر ولابد في الأساس من التضحية حتى ولو كانت على حساب المصلحة الوطنية. 

قوت النكسة المزيد من الشعور بضرورة التحرك لمداهمة الواقع وقلبه رأسًا على عقب وتعددت الأصوات همسًا أو عملًا بهذا الذي مفاده (الثورة والتجديد) وترافق ذلك مع التنامي حركات راديكالية في صفوف المقاومة الفلسطينية وألقى كل هذا بظلاله على مفاهيم سابقة اعتبرها المنظرون مرحلة انتهت أو لابد لها من أن تنتهي.

هكذا طغت الثقافة الجديدة لتحليل معنى النكسة والهزيمة ونقد الذات على العديد من العسكريين العرب وأصحاب الاتجاهات الفكرية المختلفة والأحزاب والجماعات. النكسة خلقت واقعًا جديدًا يختلف عن سابقه ونشأ منها خطاب جديد يدعو إلى المزيد من التغيير والنضال والمواجهة وذلك كله أوجد قبولًا عندنا في ليبيا وكان لابد أن يلامس شغاف قلوب مجموعات من العسكريين الذين يتطلعون لتحرير الأمة قبل إصلاح الوطن وما يدور فيه من مشاكل أو أزمات!

والتيارات السياسية خلقت لتتجدد وتتطور مع مثل هذه الحالات التي تعبر المنطقة وتجد صداها القوي والمؤثر في الأنحاء المجاورة. وانعكس ذلك غالبًا عند النخب المثقفة ونقابات العمال والطلبة.. ورواد المقاهي وكل الشارع الليبي وأزقته المترامية من الحدود إلى الحدود. 
وكما مر بنا فإننا لا نستطيع استبعاد ما ظل يجري تباعًا أو على مدى فترات متعاقبة وصولًا إلى ذلك التيار الجارف في يونيو الحار جدًّا بشمسه وأجوائه ورائحة عرقه ودمائه. الخطوات تلاحقت وإن ظلت مكتومة في الصدور.

لاحظنا ما جرى عقب إقالة رئيس أركان الجيش عام 1961 وتململ مجموعة من الضباط ومحاولة تحركهم وتمردهم بالقوة. وفي عام 1964 حين كان السيد محمود المنتصر رئيسًا للوزراء والسيد سيف النصر عبدالجليل يتولى حقيبة الدفاع أعلن يومها وكان الصيف لاهبًا أيضًا عن صفقة كبيرة من الأسلحة والدبابات لصالح الجيش الذي كان في حاجة ماسة إليها قياسًا بالتسليح الملاحظ عند قوات البوليس. أثارت أخبار الصفقة المرتقبة وقرب وصولها إلى الموانئ الليبية المخاوف عند أوساط كثيرة واعترتها شكوك بأنها تخدم أطرافًا في الجيش وتسعى لتغيير الوضع في البلاد. تدفقت التقارير والتقييمات في شأن الصفقة المذكورة ووصلت إلى مسامع الملك وتقرر إيقافها بالكامل ونشأ عن الأمر تغيير وزير الدفاع وإخراجه من الحكومة وتعيينه سفيرًا لبعض الوقت في لبنان!

وأضحى الواقع المنظور يشهد أيضًا تلامسًا أو حساسية تبدو ظاهرة للعلن في معظم الوقت بين الجيش والبوليس من ناحية التجنيد والتسلح والثقة والولاء. أجواء خلقت تدافعًا بين القوتين في البلاد وبالوصول إلى عام 1967 حيث وقعت نكسة الأمة كان المجال متاحًا لالتحاق وتخرج عديد الضباط من الكلية العسكرية في بنغازي سبق لهم النشاط والتحرك في تنظيمات البعث وحركة القوميين العرب واليسار إضافة إلى مسحة إخوانية وإسلامية شملت بعضهم كانوا ضباط صف في الأصل ثم صاروا ضباطًا في الجيش.

ومع ازدياد نار اللهيب في تلك الأيام وما رافقها من عبور مجموعة من الضباط والجنود الحدود الشرقية دون أوامر من قيادة الجيش للمشاركة في المعركة التي توقفت وخبت نارها وانطلاق طائرة عسكرية ليبية إلى الجزائر تحديًا للواقع الليبي والنكسة وتعاطفًا مع ما يدور في المنطقة ثم اتصال أحد الطيارين الصغار من سلاح الجو بالسفير المصري مباشرة وإبلاغه بأن الطيران الأمريكي يشارك في القتال والمساعدة من قاعدة الملاحة رغمًا عن السلطات الليبية وترتب عن ذلك اتهام مصر لليبيا بالضلوع في خيانة الأمة ثم تراجعها.

ألقي القبض على ذلك الطيار وحوكم وسجن نتيجة لما قام به تأثرًا بالشعور القومي المجاور ودون تحسب للظروف أو معرفة أبعادها بالضبط. ثم وسط الحرائق والمظاهرات التي عمت بنغازي وطرابلس شهد شاطئ البحر في طرابلس أيضًا الاعتداء على عائلة يهودية وتصفية أفرادها بالكامل بتدبير وتنفيذ من ضابطين في الجيش حوكما على فعلهما وقضيا عقوبة السجن جراء ذلك. أحداث تسارعت وتزامنت مع ظروف خارجية كان لها طيفها وألوانها داخل البلاد وانغمس فيها الجيش ممثلًا ببعض ضباطه وجنوده ولم يكتف بالمراقبة أو الملاحظة من بعيد.

لقد ظل الجيش بهذا في قلب الحدث وصناعته كما يقولون. وهذه كلها خطوات تتبعها خطوات سابقة وصولًا إلى أمر سيقع وسيحدث طال الوقت أم قصر. 

وهنا نشأ تنظيم جديد عبر هذا المخاض في بنغازي عام 1968. كان برئاسة العقيد يونس العمراني آمر صنف الهندسة في معسكر قاريونس. كان أول دفعته الثانية من مدرسة ضباط الزاوية عام 1954 وحصل مع زميله الثاني على الدفعة عزيز عمر شنيب على دورة متقدمة في سانت هيرست في بريطانيا بعد التخرج. شمل التنظيم الجديد زملاء من الدفعة وهم حسين الشريف وحسين بادي (اللذين كانا في تنظيم آخر). ومحمد علي جعودة وغيرهم.

في اجتماع عقدوه في سيارة العمراني في سبخة المدينة الرياضية في بنغازي تعاهدوا على ستة مبادئ وضعوها خطة للعمل لإنقاذ البلاد مما فيه وكان غرض التنظيم كما يروي جعودة شخصيًّا ليبيًّا بحتًا ولا علاقة له بالتيارات القريبة أو البعيدة ولا يستهدف أحدًا واشترطوا أن يتم التغيير سلميًّا وتظل للملك مكانته.

يتقاعد ويتخلى عن مهامه وينال معاملة كريمة في رأي التنظيم. وينتهي الأمر بإعلان نظام جديد في الدولة. لكن المضي في التنظيم طبقًا لتوكيدات جعودة أحد أعضائه لدخول البعثة العسكرية الأمريكية في الجيش على الخط عند علمها به. كانت تراقب الأمور وتعرف ما يدور. أشار إلى أن البعثة التي تقدم مساعدات فنية للجيش طلبت من العمراني رئيس التنظيم تحقيق بعض المطالب. نصحوه باختيار عبدالحميد البكوش رئيسًا للحكومة المرتقبة.

وحينها ترك العمراني الاستمرار في تنظيمه وأبلغ رفاقه بذلك. وعلل السبب بأنه لا يريد التعامل مع جهة أجنبية. تنظيم توقف ضم ضباطًا من مدرسة الزاوية والكلية العسكرية وصار مثل بقية التنظيمات جزءًا من التاريخ العسكري المغمور في بعض جوانبه للجيش الليبي ليبرز تنظيم آخر عرف داخل الجيش وخارجه بتنظيم (الرواد).. فكيف تأسس ومن ضم في عضويته وإلى أين انتهى في خاتمة المطاف؟