Atwasat

محارق العقول

سالم العوكلي الثلاثاء 26 مارس 2024, 11:16 مساء
سالم العوكلي

ربما المرة الأولى التي فاحت فيها رائحة الكتب المحروقة في محيطنا القريب كانت بعد انقلاب سبتمبر، حين قام الثوريون بحرق كتب الجامعة الإسلامية بمدينة البيضاء، والعديد من المخطوطات التاريخية النادرة، ثم جرى إلغاء تلك الجامعة بقرار من مجلس قيادة الانقلاب في نوفمبر 1970، وتحويل مبانيها إلى فرع من جامعة بنغازي بالبيضاء، حيث تخرجت العام 1983 في كلية الزراعة.

ووسط هذا الفضاء كانت تقبع المكتبة التابعة للمكتبة المركزية بجامعة بنغازي بقبتها الذهبية ومدرجها. كانت هذه المكتبة مكتظة بالكتب القيمة، وتصلها الدوريات والنشرات العلمية يوميا. وفي أحداث الحادي عشر من أبريل العام 1982 الدموية، التي جرت بمدرج هذه المكتبة الذي تحول إلى بحيرة دم، أُطلق اسم أحد أعضاء اللجان الثورية الذي قضى بحادث سير بين سرت والبيضاء على المدرج والمكتبة، وتحول مبناها الكلاسيكي الفاخر إلى فزاعة رعب للطلاب الذين شهدوا الأحداث الدموية، وما زلت أحس بذلك الرعب حين أرى قبتها خلال عبوري الطريق العام المحاذي لها.

وفي البقعة نفسها التي حُرِقت فيها الكتب جرت حفلة الدماء بعد 12 سنة من الحرق، مما يذكر بقولة الشاعر والمفكر الألماني، هاينرش هاينه، إن «المكان الذي تُحرق فيه الكتب سرعان ما يُحرق فيه البشر».

بعد 34 سنة، وفي العام 2016، تعرضت جامعة بنغازي ومكتبتها المركزية لخراب وحرائق جراء تمترس المجموعات الإرهابية بها، وكانت تعتبر من أهم المكتبات في الشمال الأفريقي، وتحوي أكثر من مليوني كتاب وموسوعة ومخطوطة لم يبق منها إلا بضعة آلاف. وقبلها، يوم االخميس 25 أغسطس 2013، قامت مجموعة إسلامية مسلحة بهدم وتفجير ضريح ومسجد الشيخ عبدالسلام الأسمر وزاويته في زليتن، وحُرقت آلاف الكتب التاريخية في مكتبته.

تتعدد الفاشيات ودخان الحرائق نفسه، فالعداء للكتب والمكتبات ديدن كل فاشية تسعى للتحكم في الرعية عبر نشر الجهل بينها، لتحكم قبضتها عليها، فالنظام السابق بدأ حربه على الكتب والمكتبات من أجل الوصول إلى تكريس رعية جاهلة، وتحويلها إلى حاضنة شعبية للاستبداد، تشكّل غالبية بإمكانها أن تشوش على آراء الأقلية الناقدة. واستمرت نيران الجهل مشتعلة، فأحرقت كتب تعليم اللغة الإنجليزية والفرنسية، بل الأمر تعدى الورق واللغة، ليحرق فيما بعد الآلات الموسيقية، متوجها بحربه إلى كل ما يسهم في خلق فضاء فني أو جمالي طارد بطبيعته لفكرة الاستبداد، الذي لا يترعرع إلا مع تفشي القبح والتجهم في المجتمع.

«فهرنهايت 451» هي درجة الحرارة التي يحترق عندها الورق، وتعادل 233 درجة مئوية، لذا جعل الروائي راي بردابري هذه الدرجة عنواناً لروايته الشهيرة المنشورة لأول مرة العام 1953، التي يتخيل فيها مستقبلاً، ليس بعيداً، يكون فيه عمل رجال الإطفاء حرق الكتب والمكتبات التي في البيوت بدلاً من إخماد النيران. ويقول المؤلف إنه كتب هذه الرواية بتأثير الحقبة المكارثية، ورداً على الإرهاب الفكري والثقافي الذي مارسه السيناتور جوزيف مكارثي على المثقفين والمفكرين والفنانين، وقد باع منها مئتي نسخة طبعت بصفحات مطلية بمواد ضد الحريق.

عايش برادبري فترة بروز وانتعاش وسائل إعلام جديدة مثل الراديو والتلفزيون، ورأى أن هذه الوسائل الجديدة المأخوذة بتسطيح المعرفة وتشويهها تشكل تهديدا لقراءة الكتب، لأنها تصرف الانتباه عن كل ما هو مهم، وتجعل من درجات الإقبال معيارها.

ما تقدمه الميديا السطحية من إثارة واختزال للأفكار، وسياسة ردم الكتب المهمة بالتافهة، يشكّلان حرائق أخرى للكتب دون دخان، يمكن تسميتها «الحرق البارد».

كما أن ثمة كتبا تُحرق قبل أن تُؤلف عبر ما حدث من تصفيات أو سجن لمثقفين وكُتّاب، لأنه في الواقع حرق الكتب يعني حرق العقول، وأحيانا يكون الأمر معاكساً عبر الحرق المسبق للعقول المتوقع أن تنتج كتباً مزعجة، والتضييق على الكاتب أو محاصرته بعالم التفاهة وعنف البيروقراطية التي تلتهم عقله، وربما هي ما جعلت روائياً مثل كافكا يطلب هو نفسه من صديقه، ماكس برود، أن يحرق كتبه ومخطوطاته.

«قصة الحرق لم تقتصر على وصية كافكا، فبعد صدور أعماله، وسيطرة الحزب النازي الهتلري على الحكم في ألمانيا، صُودرت كتب كافكا، وأُحرقت في مارس العام 1933 ضمن حريق الكتب الشهير الذي قام به النظام النازي حينها، إلى جانب كتب ألبرت أينشتاين وكارل ماركس وروزا لوكسمبورغ، وغيرهم. لكن الزمن كان كافياً لينتصر كافكا على من أحرقه، حيث صارت كتبه مثالاً في العالم، وتحول كتاب «كفاحي» لهتلر إلى مذمّة لكل من يقرأه».. كما كتب محمد الحجيري في مقالته «130 عاماً على ولادة كافكا.. لغز الحرق الدائم» بجريدة «الجريدة» الإلكترونية.

ويقول عبدالرحمن الكواكبيّ في كتابه «طبائع الاستبداد»: «فكما أنه ليس من صالح الوصيّ أن يبلغ الأيتام رشدَهم، كذلك ليس من غرض المستبد أن تتنور الرعيةُ بالعلم، «فـ»ـلا يخفى على المستبد - مهما كان غبياً - أن لا استعبادَ ولا اعتسافَ إلا ما دامت الرعية حمقاءَ تَخبط في ظلامةِ جهلٍ وتِيهِ عَمَاءٍ». ومنذ حرق كتب ابن رشد، قبل أكثر من ثمانية قرون، استمرت أدخنة الورق المحروق تتصاعد من مداخن تاريخنا. غير أن ما يمكن تسميته «المحارق دون دخان»، أو «الحرق البارد»، أو «الحرق المسبق»، شكّل ظاهرة لدينا أنشئت لها مؤسسات خاصة بميزانيات ضخمة، وحُقنت بعقيدة التوجس من الكتاب أو الكتابة عموماً، أو ما أسميه «فوبيا الورق» من مؤسسات دينية أو أمنية أو حتى مؤسسات إدارية تتبع مباشرة وزارات الثقافة في النظم الشمولية مثل الرقابة على المطبوعات التي بقدر ما أحرقت كتباً كثيرة بمنع تداولها بعد الطباعة أحرقت الكثير في مهدها حينما منعتها من الطباعة والنشر أساساً، وعمل غالباً في هذه المؤسسة أو ما أسميها «أفران الفكر» موظفون لهم صلات بالثقافة والفنون بقدر ما يجيدون فهم مزاج السلطة والقدرة على سبر الأفكار، ويتمتعون بخبرة الحرائق مثل رجال الإطفاء في رواية «فهرنهايت 451» الذين تحول عملهم من إخماد النيران إلى إشعالها في الكتب.

وإذ يقدم الروائي هذه الشطحة كخيال مستقبلي أوحت به الظاهرة المكارثية، وما سبقها من مجازر للكتب في العالم الغربي الحديث، فإن هذا الخيال الروائي كان هو الواقع لدينا، بل إن الواقع كان أكثر شطحاً من الخيال، فما سميت «الثورات الثقافية»، التي قامت بها أنظمة قمعية عبر سجنها المثقفين والمبدعين، يعد إجراءً واقعيا يسخر من فانتازيا رواية «فهرنهايت»، حيث تحرق الكتب وهي مازالت في المخيلة. وبمجرد أن نحسب كم كاتباً ومثقفاً ليبيّاً وضعوا في سجون شرسة لمدة عقد أو أكثر من الزمان في العمر، الذي من المفترض أن تكون فيه ذروة عطائهم، فبإمكاننا أن نخمن عدد الكتب المهمة التي أُحرقت داخلهم في هذه الحقبة.

العجيب أنه حتى بعد أن تزول الأسباب لهذه المحارق، التي تطال الأفكار والرؤى والاجتهادات، يظل هذا الوسواس متوارثاً ومستمراً حتى في الدول التي قررت أن تلج فضاء الديمقراطية والحريات، وتثبِّت في دساتيرها أو «إعلانها الدستوري» حقوقاً مثل حرية التعبير أو حرية الاعتقاد، وهذا ما حدث في بلدان الربيع العربي، وليبيا خصوصاً، لأن ليبيا كان لها وضع خاص واستثنائي، فما زال الكتاب والفضاءات الثقافية وأنشطتها تتعرض لرقابة أمنية، وكنا فترة النظام السابق نتفهم الأسباب التي تدعو إلى مثل هذه الإجراءات، لأن الوضع السياسي كان مختزلا في شخص تحكم في هذه البلاد، وقرر أنه المفكر والمثقف والثائر والوطني الوحيد، وقرر أن يطبق أفكاره بحذافيرها على المجتمع برمته لمدة عقود من القمع، وبالتالي فأي ثقافة مغايرة أو أفكار أخرى من الممكن أن تشوش على مشروعه الذي لا يرى بديلاً له، لكن في نهاية هذا الحال انتهى هذا السبب المَرَضي الذي جعلنا نتفهم وقتها أسباب مراقبة الأنشطة الثقافية والفنية، ومن المفترض أن ننتقل بعد هذه الثورة الشعبية التي قام بها قطاع واسع من الشعب ـ بعد أن خُنق لمدة عقود على جميع الأصعدة ــ إلى فضاء آخر من التعامل مع العقول النيرة في زمن أصبحت فيه حرية التعبير في هذا الكون مثل تنفس الأكسجين.

من جانب آخر، علمتنا التجربة أن التضييق على حرية الفكر والأنشطة الثقافية والفنية والجمالية والرقابة الصارمة هو ما أدى إلى ظاهرة الميل إلى العنف، وظهور الحركات الدينية المتطرفة، لأن الروح الفارغة مثل الوعاء المعدني الذي من السهل تعبئته بأي مادة متفجرة.

ومن جانب ثالث، أصبحنا نعرف أن أعتى المنظومات الأمنية العربية فوق هذا الكوكب، التي راقبت بصرامة الثقافة والإبداع وحتى الخيال، كانت إبان النظم الشرسة السابقة في العراق وليبيا وتونس واليمن، فضلاً عن النظام القائم في سوريا، وبعد عقود من الرقابة الصارمة ما هي النتيجة التي نراها الآن؟ انتهت هذه الأنظمة نهايات مأساوية أو تفسخت، والمحصلة مجتمعات متهالكة جاهلة، وحروب أهلية، ودول شبه فاشلة، وأزمات لا حد لها، اجتماعية واقتصادية ونفسية، وخراب على كل الأصعدة. ومن لا يتعلم من التاريخ والتجربة سيكرر الأخطاء ويتخذ الدروب نفسها التي ستفضي دائماً للنفق المظلم نفسه، والتاريخ يعلمنا أيضا أن الشعوب التي تعرضت لاضطهاد طويل تحتاج كل مؤسساتها ومواطنيها لإعادة تأهيل أهم ما تسهم فيه الفضاءات الثقافية والفنية والجمالية.