Atwasat

قلت أنا امرأة فرنسية!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 26 مارس 2024, 10:29 مساء
أحمد الفيتوري

عند منفذ امساعد، عند الحدود الليبية الشرقية ضربني صقع وصرير ريح حتى كدت أسقط، فراودتني رغبة الرجوع إلى بيتي. لما ذكرت هذا لرفيق يسحب كتابا من مكتبة بيته وقرأ لي مترجما أن الكتاب «وقدات»، سيرة للكاتب عبد الله القويري، احتوى على مشهد ساعة عودته من المهجر مطلع خمسينيات القرن العشرين، قال فيه، أنه عند وصوله منفذ امساعد اجتاحت القرية جيوش عجاج ورمل ناعم وحاد يجرح البشرة الناعمة، فنظر خلفه حيث يسكن في واحة «الفيوم» عند ضفاف النيل تحوطه أشجار المانجو والجوافة والموز، لكن الرمال تهيأت له كمغوية تشده إليها بسياط التحدي أن ينالها، في مدفني الرملي، المنمق بفوارغ الرصاص، شاهدت أيديا رملية تشدني إليها وتتحداني، عندئذ أوحى إليّ أن الكثبان سرج فرس حرون في الصحراء، ما تمكن بشر من ركوبها فركبتها.

لم أكن أرى ما أرى ولا سمعت ما سمعت، لكن جسدي يترنح ونوبة سكر اجتاحتني، فهل أُسرت كسبية خذلتها قوافل الكثبان، سترها؟ لم أتبين الأمر، فالخدر في جسدي أسكنني، لم أبحث عن إجابة ولا مجيب. طنين ورنين متقطع، أصوات بشرية تتداخل وأصوات آلية، هذا تراءى لي كشاشة التلفزيون قبيل بدء الإرسال. ذا ما تبقى في ذاكرتي، بقوة الصقيع وصرير الريح ما ضربني حتى كدت أسقط عند منفذ امساعد، غير ذلك تفاصيل من صنع البشر، الذين هم ذئاب يكسرون الوحدة لكنهم يخيفون، لقد لفظتهم ذاكرتي كالساعة التي التقيتهم فيها باعتبارهم نجدة قاتلة، عند الخوف ننكمش ونلوذ بجسدنا كما محمية حتى من أحبتنا.

ساعة جئت أسعى إلى ليبيا رافقتني الطمأنينة ما الآن غدرت بي، لم أخف الموت ولم يخطر بالبال سوء، لكن خفت من خوفي، الجمل يشم الماء عن بعد لا يصدق، أما الخائف فيهرب عن الماء تحت أقدامه مندفعا وراء السراب، قلت أنا امرأة فرنسية، قال تفسرين الماء بالماء، هكذا أفصحت عندما وجدني ضابط في مخبئي، ما باعني بخسة ساعة انقشع العجاج وسكن الغبار.

كل ما مرّ بي لم يمر، لم أستوعب أني اندفعت إلى جهنم بإرادتي وجموح رغبتي، التي قالت لي حينها: حياة دون حماقات، حماقات دون حياة. لقد قيل إني خرجت عليهم بشراسة ناقة فقدت وليدها، حتى ظنوا أني عفريتة صحراء ضلت طريقها، ثم كبوت في غيبوبة التي سترتني عنهم، فقد ظنوا أني ميتة، ما كبلهم وأخافهم حتى ترددوا في جلبهم لي إلى آمرهم، ما جعلهم ينسوني أن أرتال سيارات تطاردهم وتفاجئهم حيث كانوا، احتموا بستائر الكثبان، لكن عند كثيب وآخر يشق الستر سيارة تطاردهم، أحيانا سيارة عادية مثل «بيجو 404»، يركبها شباب مدنيون لا سلاح لديهم غير طيشهم، عرفت في مقبل الأيام أن رفيقي وأهله، وباعتباري ضيفتهم، حشدوا من السكان كل مقتدر، من جلهم رغبوا ركوب الصعب من أجلي كامرأة... كنصيرة... من كان طبعهم نصرة الضيف فكيف وهم ثائرون؟.

ما حدث جعل مني صيدا ثمينا، ثمنه الآمر بالذهب وعند رئيسه بالماس الرفيع النوعية، كل يمنى النفس بترقية عالية من رئيسه، فقد أكون رقية دولية في النصر المرتقب.

المحقق من عاملني بالحسنة ورطب الكلام، اعتبر نفسه قد أنقذ الفتاة الفرنسية، من اختطفها «جرذان فبراير»، وهي الشغل الشاغل لعواجل أخبار محطات رئيسة عالمية.

قبل التحقيق معي جعلوا مني سلعة سياسية عينية يمكن مبادلتها بموقف سياسي، لهذا كنت بين بين، سجينة أو أسيرة من ناحية ومن أخرى لقية لا مثيل لها. لهذا وضعت في سجن قميء يدعى محليا سجن بوسليم، الذي عرفت عنه الكثير عبر سجناء قضوا سنوات وسنوات بين جدرانه، ما صنعها مقاول مصري شهير، حيوط الزنازين لبست برش أسمنت مخلوط بصخر مدشش، برؤوس كما مسامير، لو انزلق المرء ووقع على الحائط بمس خفيف لا بد أن يجرح جلده.

في سجن كهذا (السجن العسكري) وضعت في زنزانة خاصة بالضباط الموالين للنظام، لكن ارتكبوا هفوة أي خطأ غير مقصود، الزنزانة مريحة إلى حد بعيد بالنسبة لبقية الزنازين.

لقد خفت من خوفي، فالزنزانة المريحة جعلت ذاكرتي تنثال بما قرأت عن هذا السجن عبر الإنترنت، وما كتب فيها من تقارير من قبل المعارضة الليبية والمنظمات الدولية لحقوق الإنسان، التي كتبت الكثير من التقارير حول مذبحة بوسليم، ما يقدر ضحاياها بالمئات من السجناء، من قتلوا في تمرد مزعوم، ومما طالعت في ويكيبيديا: «مجزرة سجن بوسليم، يعتقد أنها عملية قتل جماعية، وقعت في 29 يونيو 1996م، واعتبرت كأكبر انتهاك ارتكبه نظام العقيد معمر القذافي في ليبيا. حيث راح ضحيتها نحو 1269 معتقلا، معظمهم من سجناء الرأي».

فتصورت أني لست سجينة ثمينة مثل كيلوبترا أو أني جان دارك حتى وأنا فرنسية؛ لذا انحشرت نفسي بحشود من اغتيلوا في سجن كهذا، أشباحهم ملأت الزنزانة فأدفأني الرعب حتى نمت من الهلع والشقاء والذاكرة المتعبة.