Atwasat

عواصف وفيضان سبتمبر 2023.. دمار مدينة

نور الدين السيد الثلثي الثلاثاء 26 مارس 2024, 12:34 صباحا
نور الدين السيد الثلثي

مرت على عاصفة سبتمبر الماضي وفيضان وادي درنة ليلة 10-11 سبتمبر ستة أشهر كانت كفيلة بتراجعهما إلى خارج دائرة الاهتمام رغم فداحة الخسائر البشرية التي بلغت أكثر من ستة آلاف شهيد وعشرة آلاف مفقود ونزوح عشرات الآلاف، حسب الأرقام المتداولة قبل أشهر مضت، وإلى انجراف منازل ومركبات ورفات أموات نحو البحر. سقطت الأمطار على شمال شرق البلاد بكميات قياسية بلغت ما بين 150 و240 مم رافقتها عاصفة عاتية لا تتجاوز احتمالات حدوثها مرة واحدة كل 300 إلى 600 سنة، ولم تقتصر على شمال شرق ليبيا فقد مرت ببلغاريا واليونان وعبرت البحر الأبيض المتوسط قبل وصولها إلى شرق الساحل الليبي تحمل الموت والدمار.

الاستعداد لمواجهة الكوارث وعواقبها الإنسانية والمادية مسؤولية الحكومات ومؤسسات الدولة المركزية والمحلية، فهي التي يقع ضمن اختصاصها تشغيل المرافق العامة وسلامتها، وإدارة الأزمات والكوارث وعواقبها البشرية والمادية. كانت أخبار العاصفة محل متابعة وتحسب لوصولها خلال أيام قليلة، ولم تكن أخطارها خافية حتى إنها كانت موضوع ندوة ببيت درنة الثقافي بعنوان لا لَبس فيه: «وادي درنة.. تبعات الإهمال ومخاطر الانهيارات» أقيمت يوم 6 سبتمبر 2023 وشارك فيها الأديب مصطفى الطرابلسي الذي شاء القدر أن يكون من شهدائها وأن يختفي البيت الذي أقيمت فيه الندوة بعد أربعة أيام.

لم يشفع للمدينة القديمة خاصة تاريخها أو إبداع البناة والصنّاع فيها وإن صمدت بعض معالم منها مسجد الصحابة وأشجار ميدان البلدية ومدرسة الزهير (مدرسة النصر سابقاً وقد مس اسمها ولعُ تغيير الأسماء). بقيت المنازل بشارع البحر قائمة لكن الشارع خلا من المارة الذين رحلوا لأسباب شتى ومنهم من لن يعود أبداً. قابلت شخصاً واحداً، كان وقتها خارجاً من منزله قرب ميدان البلدية، تبادلت معه حديثاً صاغه واقع الألم المرير.

مقدمات وأسباب
لم يتجاوز عدد ضحايا اليونان جراء تلك العاصفة بضع عشرات الأشخاص مقابل آلاف الشهداء في ليبيا. انهيار سدّيْ بومنصور والبلاد «المفاجيء» وضعف الاستعداد لإدارة الأزمات كانت فروقاً تكمن فيها أسباب الاختلاف بين ما خلفته العاصفة من أضرار في الحالتين.

كان هناك سدان على وادي درنة تبلغ سعة تخزينهما الإجمالية 24 مليون متر مكعب من مياه الأمطار، بهما تصدّعات معلومة منذ تسعينيات القرن الماضي. كان ومن واجب السلطات المختصة اتخاذ الإجراءات الاحترازية لدرء أخطار انهيار السدين وحماية الأرواح. لكن ما حدث حمل تذكيراً بأن أداء الحكومات قد يؤدي ليس فقط إلى الإعمار والرفاه، أو إلى الفشل والمعاناة، بل أن في سوء إدارتها للكوارث، أخطاراً عظيمة قد تعني دمار مدن ومرافق كبرى وموت آلاف المواطنين.

إعادة الإعمار.. التخطيط لها وإدارتها
إعادة إعمار المناطق المنكوبة وانطلاق اقتصادها وعودة سكانها ستكون بحاجة إلى برنامج تضعه إدارة مهنية نزيهة وبعيدة تماماً عن الحسابات السياسية والمناطقية والشخصية، وعن الفساد، مستعينة بالخبرة والتخصصات العالمية الضرورية التي سيكون الإعمار في أمس الحاجة إليها. من هنا ستكون منطلقات النجاح، وبغيرها سيكون الفشل المحتم وخيبة القائمين عليه.

تلك الكارثة الإنسانية والوطنية أكبر من أن تُترك لتحقيقات وإجراءات معتادة قد يكون للحسابات السياسية والمصلحية دور أساسي في إدارتها. كانت الكارثة حدثاً جللاً يستوجب إجراء تحقيق مهني واسع وشفاف، الهدف منه تبيـُّـن الاستعدادات المتخذة لمواجهة احتمالاتها واستقصاء مواطن الخلل أو الإهمال والتقصير. العقاب ينبغي ألا يكون الهدف من التحقيق، بل كشف الحقائق والأسباب واستخلاص الدروس، والعمل في ضوئها على رفع مستوى إدارة مؤسسات الدولة وتعزيز الرقابة والمحاسبة على أدائها.

مأساة السيول وعواقبها قضية وطنية بحاجة لأن يتم التعرف على أسبابها والتعريف بها، ليس بمسطرة القانون والمسؤولية الإدارية فحسب، بل في عمل خالص للوطن وأهله من أجل النهوض بجودة الإدارة مما هي فيه من تدنٍّ عظيم. المأساة التي دمرت مدينة درنة وألحقت أضراراً بالغة بمدينة سوسة وقرية الوردية وغيرهما من مناطق الساحل، وأودت بحياة الآلاف وهجّرت عشرات الآلاف تستوجب دراسة لمدى الاستعداد لمواجهة أسبابها والحد من خسائرها البشرية والمادية، واعتبارها إنذاراً بما يمكن أن يترتب على سوء الإدارة من تهديدٍ لحياة الناس وممتلكاتهم ومقدرات البلاد متى وقع طاريء من عمل الطبيعة أو البشر. ذلك ديْنٌ على الدولة تجاه كل من قضوْا غرقاً في منازلهم، ومن ساقهم السيل العظيم إلى البحر، وأولئك الذين يعانون الفقد واليتم والنزوح من بعدهم.
ولكن.