Atwasat

سيادة الفساد الليبي

منصور بوشناف الإثنين 25 مارس 2024, 12:25 صباحا
منصور بوشناف

بعد هزيمته في تشاد وحالة الحصار الأميركي ثم الأممي، وجد النظام الليبي نفسه أمام حقيقة مروعة وهي فشل كل مشاريعه ومخططاته لتقديم نموذج مفارق ومختلف للتحرر والاستقلال عن قوى الهيمنة العالمية وقيادة حركة مقاومة عالمية، كما كان يحلم ويخطط وينتج خطابات التحرر والمقاومة. تلك الهزائم وذلك الفشل الذريع وضعه أمام خيار واحد للبقاء، وهو التسليم وتقديم كل ما يطلب منه لإعادة تأهيله ثم إدماجه في المنظومة العالمية المهيمنة.

أثناء الحصار نمت شريحة اجتماعية دعم النظام نموها ومنحها كل الإمكانيات لتكون وكيله عند المركز الاقتصادي العالمي الرأسمالي ولتكون أيضاً وكيلاً لذاك النظام الرأسمالي في البلاد.

كانت تلك الشريحة قد تكونت وتغذت على الفساد في العقود وعلى الهبات والامتيازات الخاصة التي منحها لها النظام بناء على ولاء أفرادها للنظام وثقته فيهم.

وفي تلك اللحظة التاريخية الفارقة من عمر النظام «لحظة العودة إلى الحضن الرأسمالي والانفتاح» أطلق لتلك الشريحة العنان وسلمها اقتصاده الريعي الهش لتكبر وتهيمن وتتحول إلى ما يشبه مافيا الاعتمادات والعمولات وتتحول أدبياتها السياسية والاقتصادية إلى أدبيات وبرامج «الكومبرادور» وتتحول «دبي» إلى «حلم ليبي» وتتخلى عن خطاب الإنتاج «الفارغ» عملياً إلى خطاب «الاستهلاك» وعن خطاب الاستقلال والمقاومة إلى خطاب الانفتاح والاندماج.

هذه الشريحة «كتلتنا الحرجة» قادت ما أسماه «القذافي» الثورة في الثورة وهي لم تكن إلا كشطاً لكل مبررات وجوده السابقة والعودة السعيدة إلى الحضن والبداية من الصفر.

كان الليبيون، وبعد سنوات طويلة من الحرمان وحياة الكفاف، قد تحمسوا لأطروحات تلك المافيا ورأوا «دبي» في متناول اليد وشموا روائح جنة الاستهلاك بلا حدود. فقد كان كل شيء مدمراً من حولهم ولذا وقفوا جميعاً على أكوام الخردة التي كان أحد أسمائها «العظمى» متطلعين إلى أبراج «دبي» بديل «هونج كونج» الكمبرادوري المعرب.

كل ما أوردته في هذه السطور كان تلخيصاً لجزء من كتاب الباحث الإيطالي اليساري «ماتيو كاباسو» عن الجماهيرية وسقوطها العام 2011، أعني الجزء الذي خصصه لأهم عوامل تآكل وانهيار النظام من داخله أولاً بعد فشل مشاريعه المحلية والعربية والعالمية.

الباحث الإيطالي في هذا الكتاب يشير منذ بداية بحثه إلى أنه حاول أن يقارب تجربة الجماهيرية على نحو يفارق ما درج الباحثون على تكراره، حتى التنميط، من أن التجربة الليبية تتلخص في أطروحة «اللادولة وهيمنة القذافي» على كل شيء، ولذا ظلت كل الدراسات عن ليبيا تتركز على عدم تجذر أو ربما عدم وجود فكرة الدولة لدى الليبيين وعلى أطروحات القذافي الغريبة، والأهم عن إلغاء الليبيين من تاريخهم، فلا شعب يحضر في تلك الدراسات.. لا شيء سوى اللادولة والقذافي.

«كاباسو» يقارب التجربة من منظور علم الاجتماع السياسي والأنثربولوجي ويخلص إلى دراسة الفعل الاجتماعي وتفاعله مع أطروحات الجماهيرية ومقاومتها وتوظيفها للمصالح الاجتماعية والاقتصادية الخاصة، والأهم تشكل وتطور وتحول «النخبة» الاقتصادية التي أنتجتها سياسات النظام الاقتصادية والسياسية والثقافية، لتقود تلك النخبة عملية هدم ما تبقى من مشاريعه وبيعها كخردة لإعادة تصنيعها وفق نموذج «دبي» الكمبرادوري المعرب والمؤسلم.

يخلص «ماتيو» إلى أن الفساد الذي صُنع برعاية النظام وخلق «نخبة، مافيا»، التحقت واندمجت في منظومة المافيات الدولية، كانت قائدة الإجهاز عليه منذ بدايات القرن الواحد والعشرين حتى 2011.

كان الليبيون قد تشبعوا وصدقوا كل أدبيات تلك النخبة- المافيا، وذلك كان نتيجة ما عانوه من حرمان وفقر لعقود طويلة، لتخذلهم تلك «النخبة- المافيا» مرة أخرى بعد فبراير وتتغول أكثر لتستولي على كل شيء وتحرمهم من كل شيء.