Atwasat

في وجه الموت

سالم العوكلي الثلاثاء 19 مارس 2024, 10:06 مساء
سالم العوكلي

حين كنت مرتبطًا بعمود أسبوعي في الملحق الثقافي بإحدى الجرائد المحلية التابعة للهيئة العامة للصحافة، أتذكر أني في شهر أكتوبر من العام 2001 بعثت مقالة أنتقد فيها المخيال الأميركي منطلقًا من خطاب الرئيس السابق بوش الابن حين قال في صدد ردة فعله على أحداث الحادي عشر من سبتمبر: من ليس معنا فهو ضدنا.

غير أن المشرفة على الملحق الثقافي اتصلت بي وأخبرتني أن رئيس تحرير الجريدة أوقف المقال، وحين اتصلت برئيس التحرير أخبرني أن لديهم تعليمات ألا يتعرضوا في هذا الوقت لأميركا بأي نقد أو استفزاز، ولأن مقالتي لا تختلف عن كثير من الأصوات داخل أميركا نفسها التي تنتقد ردة فعل البيت الأبيض الهستيرية على هذه الأحداث، استغربت الأمر، وقلت له: وين أيام (طز طز في أميركا)، فقال لي هذا كان زمان، وتوا أميركا زي الثور الهايج.

وأنا أفتش بعض أوراقي المنسية عثرت على مقالة لي مكتوبة بخط اليد في يناير 2010 وعليها ملاحظة مفادها أنها مُنعت من النشر في الملحق نفسه، وكانت المقالة بعنوان (في وجه الموت) حول ردة الفعل العربية المخجلة على المجزرة التي ارتكبها الكيان الصهيوني في غزة ديسمبر 2008، وإذ أنشرها هنا بعد كل هذه السنوات ليس لأن التاريخ يعيد نفسه، ولكن لأن ثمة متغيرات في ردة الفعل حتى على مستوى الشارع العربي، وظاهرة انتشار الاحتفالات والكرنفالات الصاخبة في كثير من الدول العربية المصاحبة لهذه المجازر تعكس إلى حد كبير ما أصاب الوجدان العربي من تقلبات أثناء هذه السنوات، حيث تجرى المجزرة المرعبة على مرمى الألعاب النارية لهذه الاحتفالات العربية الصاخبة، وهي مجازر لم يشهد لها التاريخ مثيلًا، حيث يقتل آلاف الأطفال والنساء بدم بارد على مرأى العالم في مساحة أرضية صغيرة تقع في قلب الدنيا، وتُنقل هذه الإبادة الجماعية في كل وسائل الإعلام والمنصات، ويتابعها العالم مباشرة.

وهذا نص المقالة التي لم تنشر وقتها، وكُتبت بعد عودتي من مشاركة في منشط ثقافي وفني بطرابلس:

<<في طرابلس كان الحزن مخيمًا في كل مكان، وكانت العيون مفتوحة صوب المحطات الفضائية لعلها تلقط خبرًا يثقب عتمة هذا الحزن. في كل زاوية نقاش حول الأحداث الجارية في فلسطين، وأوجاع تتسرب إلى أصدقائنا المثقفين والمبدعين الذين يقفون عاجزين أمام ما يحدث. هذا العجز الذي سعت القوى المعادية فترة من الزمن لتُوصل الشارع العربي إليه. طوق من الدول المرتبكة والمكبَّلة بالاتفاقيات والمساعدات وهيمنة القروض وصندوق النقد الدولي، وغيرها مما شكل سياجًا حاميًا حول هذا الكيان العنصري الذي بدأ من فترة طويلة ينمو كورم سرطاني وسط منطقتنا، وبدأ استفحاله يهدد سلامة هذه المنطقة ومستقبلها أمام أنظمة عربية متفرجة لا يهمها سوى الحفاظ على عروشها المهددة من قِبل ثورة الشارع العربي الذي هو أيضًا تقلصت منذ زمن طويل طاقاته وقدراته ومدى مساحة مشاركته في القرار السياسي، فصار هامشًا متفرجًا خلف هامش سياسي متفرج بعد أن اقتصرت إستراتيجياته المستقبلية على مدى الحفاظ على كراسي الحكام ومكتسباتهم، وبالتالي لم يكن موقفهم السلبي مفاجئًا ولا نشازًا لأن آليات سياساتهم الداخلية لابد وأن تنعكس على سياساتهم الخارجية.

هكذا كانت المعطيات أمام المواطن العربي، وهكذا كانت طرابلس المدينة تراقب المشهد كأي مدينة أخرى عاجزة عن اختراق هذا السياج الأمني العربي الرسمي الذي يحيط بإسرائيل. كانت طرابلس حزينة لكنها لم تتوقف عن زخمها الفني والثقافي المعتاد: المعارض والندوات والأمسيات الشعرية والحفلات الموسيقية التي تنهض رغم ما يخيم عليها من حزن في وجه القبح والكراهية المتفشية.

لذلك لا نملك إلا أن نكتب بمداد القلب، وأن نرى في هذا النضال الفلسطيني مستقبل القوى المكافحة من أجل الحق والحرية. إنهم يدفعون ثمنًا باهظًا من أجل هذه القيم، لكن الضمير الإنساني العالمي ينظر إلى الشهداء الفلسطينيين كمشروع تاريخي يكشف على الملأ مؤامرة قوى الشر على مستقبل الإنسان الحالم بالطمأنينة والسلام».

كان وقتها الحديث يدور عن عجز الشارع العربي عن الفعل تجاه قضيته الأخلاقية الأولى، وبعد 14 عامًا أصبح الحديث يدور عن لامبالاة الشارع العربي الذي فقد في معظمه حتى مشاعر التعاطف، وما بين أحداث مجزرة 2008 ومجزرة 2024 تغيرت إستراتيجية الكيان الصهيوني من الحديث حول حل الدولتين إلى الحديث عن دولة واحدة يهودية على كل أرض فلسطين، وهي تعرف والعالم يعرف أن هذا لن يتأتى إلا بتصفية شعبها بين إبادة ممنهجة وتهجير قسري، وما سبقه من تفكيك ممنهج لمعظم المخيمات الفلسطينية في العراق وسورية ولبنان يقع في السياق نفسه. وهذه هي المرة الأولى التي لا يحاول الكيان الصهيوني أن يتستر على جرائمه، بل يتباهى بعرضها أمام العالم، لأن هذه الإبادة تحولت إلى عقيدة يديرها التوراتيون، ما يجعل التباهي بها يشبه تباهي داعش بجرائمها، ورغم أن الإعلام الصهيوني يركز على تشبيهه لحركة حماس بداعش، إلا أنه إذا ما استخدمنا المنطق سنجد أن هذا الكيان هو الأشبه بداعش في سمات مشتركة عديدة: فما تسمى إسرائيل تشكلت من خليط من المهاجرين المتعصبين الذين يحملون جنسيات متعددة يرتكبون أعمال الذبح من أجل إقامة (الدولة اليهودية) التي تتمدد يوميًا، وداعش خليط من المهاجرين المتعصبين من جنسيات عدة يسعون لإقامة (الدولة الإسلامية) تحت شعار باقية وتتمدد، كما أن الدول الكبرى التي أسهمت في التأسيس لهذا الكيان ودعمه بكل السبل أسهمت أجهزة مخابراتها في التأسيس لتنظيم داعش، والفارق أن (إسرائيل) هذا الكيان الديني العنصري أنشئت بقرار من منظمة الأمم المتحدة ومباركة المجتمع الدولي.

في الذكرى السابعة لمجزرة العام 2008، تذكر جريدة «دنيا الوطن» الإلكترونية أن هذه المجزرة «بدأت بعملية عسكرية شنها الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة من يوم 27 ديسمبر 2008 إلى 18 يناير، وحسب تصريحات جيش الكيان الصهيوني وقتها أسفرت العملية عن مقتل 10 جنود إسرائيليين و3 مدنيين وإصابة 400 آخرين أغلبهم مستوطنون أصيبوا بالهلع وليس إصابات جسدية، وقد ازداد عدد شهداء غزة جرّاء العدوان الإسرائيلي على القطاع إلى 1328 شهيدًا والجرحى إلى 5450 بعد أن تم انتشال 114 جثة لشهداء منذ إعلان الكيان الصهيوني وقف إطلاق النار».

من جهتها أكدت مؤسسة التضامن الدولي لحقوق الإنسان الأهلية بنابلس في تقرير نشرته يوم 20 ديسمبر 2008، أن القوات الإسرائيلية قتلت أكثر من 50 فلسطينيًا في الضفة والقطاع خلال فترة التهدئة، وأوضحت أن إسرائيل قامت بانتهاكات عديدة للاتفاق منها اعتقال 1586 مواطنًا فلسطينيًا معظمهم من مدن الضفة، كما هدمت أكثر من 60 منزلًا ومنشأةً وخيمة اعتصام لمواطنين فلسطينيين معظمها في مدن الضفة. كما رصدت المؤسسة أيضًا الاعتداءات المتكررة على الصحفيين الفلسطينيين ومصادرة الأراضي وتصاعد وتيرة الاستيطان وإقامة الحواجز العسكرية وتقطيع المدن وغيرها من الممارسات التي اعتبرتها انتهاكات منافية لمواثيق حقوق الإنسان.

وقد اتهمت منظمة «هيومن رايتس ووتش» إسرائيل باستخدام الأسلحة الفسفورية المحرمة دوليًا في هذه الحرب. وقد نشر موقع «تيمز أونلين» البريطاني في تاريخ 8 يناير 2009 صورة لجندي إسرائيلي يقوم بتوزيع قنابل تحمل الرمز (M825A1)، وحسب الجريدة أن هذا الرمز يعني قنابل أميركية من الفسفور الأبيض، كما استهدفت قذائف الدبابات مخازن المساعدات الغذائية والأدوية وغيرها في المقر الرئيسي للأونروا التابع للأمم المتحدة، واعتذرت إسرائيل، لكنها ما لبثت أن كرّرت القصف لنفس المنطقة مرة أخرى».

تكررت بعدها الحروب على غزة، وكل مرة تنتهي بتهدئة بعد مقتل الآلاف من المدنيين، ولم يردع هذا الكيانَ الإداناتُ التي توجهت إليه مما تبقى من ضمير في هذا العالم، ولأنها منظومة تشكلت من عصابات خارجة عن القانون ومحمية من دولة عظمى شبيهة بها قامت على إبادة سكان الأرض الأصليين، فهي لا تهتم بكل ما يقال عن الخروج على القوانين الدولية ولا جرائم الحرب ولا الجرائم ضد الإنسانية ولا محكمة العدل الدولية، ما دامت هي محمية بفيتو أميركا داخل مجلس الأمن ، فمنذ تأسيس مجلس الأمن بهذه الترويكة التي مهمتها إدارة الحروب وليس إيقافها، استخدمت الولايات المتحدة قرار حق النقض (الفيتو) 114 مرة، من بينها 80 مرة لمنع إدانة حليفها الكيان الصهيوني، و34 مرة ضد قوانين تساند حق الشعب الفلسطيني.