Atwasat

ممنوع أن تتألم!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 19 مارس 2024, 08:40 مساء
أحمد الفيتوري

نحن نُناشِدُكم في صراحةٍ
ألَّا ترَوا فيما يحدُث كلَّ يومٍ
شيئًا طبيعيًّا؛
لأنه ما من شيءٍ يُوصَفُ بأنه طبيعيٌّ
في مثلِ هذا الزَّمنِ الذي يَسودُه الارتباكُ الدَّمويُّ،
والفوضى المُنظَّمة، والتعسُّفُ المُدبَّرُ،
والإنسانيةُ المُتنكِّرةُ لإنسانيَّتِها،
حتى لا يستعصيَ شيءٌ على التغيير.
• برتولد بريخت

مهما بالغنا وانفعلنا عاطفياً وسخطنا على ما يحدث في غزة، فلن نكون في مستوى ما فعلت الأميركية «راشيل كوري»، من ولدت العام 1980 في الولايات المتحدة، لتقتلها الجرافات الإسرائيلية في رفح سنة 2003.

إذن علينا أن نتفق منذ البدء على أن الدولة الصهيونية، كمشروع استعماري قديم، مبرر وجودها القوة وسبلها العسف، فهي دولة أيديولوجيتها دينية يهودية عنصرية، يعتبرها الغرب الرأسمالي، كما قاعدة مسلحة بأنياب نووية في الشرق الأوسط، للدفاع عن نفوذه ومصالحه. ومن هذا فإن الأنظمة الحاكمة في الإقليم، منذ إعلان الأمم المتحدة لاستقلال هذه الدولة الدينية، ترضخ غصباً للقوة الحامية لهذا المشروع الاستعماري الغربي، الغرب وقائدته الولايات المتحدة الذي ضغط ويضغط على العالم لأجل الإقرار بمشروعيته.

وإذن غالبية دول العالم، وتقريباً كل دول الإقليم، ترضخ للمشروعية الغربية، فتعترف بهكذا دولة، في إقرار منها بالمصالح والنفوذ الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة. وبعد نهاية الحرب الباردة بسقوط الاتحاد السوفيتي، بات الاعتراف بالدولة الدينية الصهيونية والتطبيع معها، من لزوم ما يلزم. وعلى هذا فإن المسألة الفلسطينية وضعت في المتاحف الدولية، من بكين إلى موسكو حتى نيويورك، فخلال العقود الماضية أخذت مسألة التطبيع مع الدولة الصهيونية مكانة المسألة الفلسطينية، وأخذت إسرائيل تعمل على دفن الجيوب المتبقية من عصر المقاومة، خاصة في غزة والضقة أي ما تبقي من فلسطين.

لكنْ للمسألة وجه آخر كما الحقيقة المرّة، فـ«راشيل كوري» يمكن قتلها لكن لا يمكن محوها، من ذاكرة تغص بأمثالها، والفلسطيني يصر العالم على فلسطينيته في فلسطين، أو في الشتات والمنافي، وإذا كانت الشمس لا يغطيها الغربال، فإن الفلسطيني فلسطيني بالقوة وبالفعل هو مقاوم. قد تبدو هذه المقاربة كالشعر، وإن كانت كذلك فإن التطبيع يتم مع دولة مَدعى وجودها أساطير، ما هو الخلل البنيوي لهذه الدولة. من هذا تحولت المسألة الفلسطينية إلى مسألة ضمير إنساني، ما استطاع جيب مقاوم في «غزة» التي تغص بالبشر، إعادة إحيائه، ما جعل شوارع العالم تغص بفلسطين للمرة الأولى.

لمواجهة فلسطين في شوارع الغرب الديمقراطي، نزع الغرب الديمقراطية عنه، واتخذ العسف وسيلة مبررها الخطر الذي يواجهه المشروع الصهيوني، وبين ساعة وضحاها منعت الدول الديمقراطية مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا التظاهر بحجة لا سامية المتظاهرين. وتم طرد الكثير من المتظاهرين من وظائفهم، هم الذين ضد مشروع إبادة البشر ما تمارسه إسرائيل، الذين يطالبون بوقف إطلاق النار، لدرجة اعتبر التألم لقتل الأطفال، فتجويع من لم يقتل، جريمة وممارسة ضد السامية إسرائيل!.

وإذا كانت الشمس لا يغطيها الغربال، فإن الإعلام الغربي المحايد والموضوعي تحول إلى غربال ليس كمثله شيء، مثل ممارسته في قضايا مقاربة كفيتنام، وجنوب أفريقيا، وأوكرانيا. وطبعاً موقعه وموقفه فيما يخص عدوان الدولة العنصرية الصهيونية، فالموقف من العرب والمسلمين، لم يكن ابن الساعة، فقد كتب فيصل دراج في العام 1989 «السمة الأبرز هي تأمل الإعلام الألماني في تعامله مع قضايا العالم العربي، عنصرية مطلقة، نفاق وبهتان وكذب، وصناعة متقنة للعقول المريضة، وكره للعرب واحتقار للإسلام...». مما اضطر الجمعية العامة للأمم المتحدة هذه الأيام، إلى أن تعتمد قراراً بشأن مكافحة كراهية الإسلام، وما أكد في مناسبته الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش: أنه لا يمكننا أن نقف موقف المتفرج بينما تتفشى الكراهية والتعصب، مشيراً إلى أن فعالية اليوم تذكرنا بأنه تقع على عاتقنا جميعاً مسؤولية مواجهة واستئصال آفة التعصب ضد المسلمين. إن فعالية اليوم تسلط الضوء على الوباء الخبيث- وهو الإسلاموفوبيا- الذي يمثل إنكاراً وجهلاً كاملين للإسلام والمسلمين ومساهماتهم التي لا يمكن إنكارها.

لقد مورست كل السبل التعسفية والقمع لكل من يقول لا للعسف الصهيوني والقمع اليهودي، ومشروع إبادة البشر ما أقيمت إسرائيل على أساسه. اليوم كل رأي يخالف ما تقول به هذه الدولة وريثة النازية مرفوض، ويقع تحت طائلة قانون معاداة السامية الرائج في الدول الغربية والولايات المتحدة. ومنه أن صفحات السوشيال ميديا تحولت إلى رقيب ديني متطرف، يقصي كل ما يخالف الدعاوى الصهيونية، إلى درجة أن أعدت، في صفحتي على الفيس بوك، نشر مقال لكاتب إسرائيلي نشره في صحيفة إسرائيلية، فقام الفيس بوك بحذفه وتحذيري بعدم إعادة مثل هذا. لقد راجعت المقال الذي يرى كاتبه، أن إسرائيل في كل حال هزمتها حماس أمام الرأي العام الدولي، وعلل ذلك بما يعتقد أنه حقائق موضوعية ووقائع على الأرض. لكن في نظر الفيس ما هو موجه للرأي العام الإسرائيلي لا ينشر للعالم عبر الفيس بوك، وكأنهم يعتبرونه نشر غسيل وسخ.

إن التغيير لم يستعصِ ولن يستعصيَ على فلسطين، كما لم يحدث ذلك مع فيتنام وجنوب أفريقيا. وهذه حقائق موضوعية تزيد العنصرية والهمجية من قوة عضدها، وتشيع مقاومتها بين البشر، ومن منهم في مقام «راشيل كوري». ولهذا: نحن نُناشِدُكم في صراحةٍ/ ألَّا ترَوا فيما يحدُث كلَّ يومٍ شيئًا طبيعيًّا، أو كما كتب برتولد بريخت من واجه النازية الأم.