Atwasat

تشريح القنفذ ـ ميراث القذافي (29)

عمر الكدي الإثنين 18 مارس 2024, 09:25 مساء
عمر الكدي

رحل القنفذ وترك أشواكه الحادة والسامة في كل مكان. لم يترك جيشًا محترفًا يلملم أشتات البلاد حتى بقبضة فولاذية، ولم يترك دستورًا يحتكم إليه الناس، ولا أحزابًا تتوافق وتقود البلاد في فترة عصيبة، ولم يترك مجتمعًا مدنيًا، وكان القذافي قد قال ذات يوم «تستلموها مني رماد» وهذا ما حدث.

تعكس مرحلة القذافي صعوبة بناء الدولة في هذا الجزء من العالم. يرى المفكر الجزائري مالك بن نبي أن آخر دولة إسلامية ظهرت في المنطقة هي دولة الموحدين، لعله يقصد الدولة بمفهومها الخلدوني، أي العصبية والدعوة الدينية، فبعد الموحدين لم يعد يحتاج الأتراك إلى خليفة عباسي ليحكموا من ورائه، بل إن المماليك وهم صنف من الرقيق الأبيض حكموا مصر والشام.

صحيح ظهرت دعوات دينية مثل السنوسية في ليبيا والمهدية في السودان، ولكنها فشلت في بناء دولة على نمط دولة الموحدين بسبب الاستعمار. الدولة الوحيدة التي نجحت هي الدولة السعودية بقيادة الملك عبدالعزيز، بعد محاولتين فاشلتين قادها أجداده. عبدالناصر هو أول مصري يحكم مصر منذ العصر الفرعوني، وعبدالكريم قاسم أول عراقي يحكم العراق منذ البابليين، والقذافي هو أول ليبي يحكم البلاد منذ ما قبل العصر الإغريقي والروماني، وأحمد بن بلا هو أول جزائري منذ ما قبل الاحتلال العثماني، ولكن جميع* هؤلاء وصلوا إلى السلطة من خلال انقلابات عسكرية، وليس بتوافق مع مجتمعاتهم.

أول دولة حديثة في المنطقة أسسها ضابط ألباني اسمه محمد علي، اعتمد بالكامل على الأوروبيين والأتراك والشركس ولم يعتمد على المصريين، فالجيش أسسه ضابط فرنسي تحول للإسلام يدعى سليمان باشا، وكلوت بك الفرنسي هو من بنى مستشفى قصر العيني. كل الدول الحديثة التي تحولت إلى جمهوريات فشلت فشلًا ذريعًا. ليس فقط بتآمر العسكريين وإنما لأن هذه المجتمعات لم تنطلق من تراثها وتجربتها التاريخية. بعد استقلال السودان تقاسم السلطة حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي. كان حزب الأمة يمثل الطائفة المهدية والحزب الآخر يمثل الطائفة الختمية. لماذا لم يحكما بهذه الصفة واختارا قناعين لم يصمدا طويلًا، فبعد سنتين من الاستقلال طلب رئيس الوزراء عبدالله خليل من قائد الجيش إبراهيم عبود الاستيلاء على السلطة، وبعد أن استشار عبود زعيم المهدية عبدالرحمن المهدي وزعيم الختمية ذهب إلى الإذاعة وقرأ البيان الأول. لم يحرك دبابة واحدة ولا استعان بعسكري واحد. نجحت دول الخليج لأنها لم تستورد أنظمتها السياسية من الغرب، وتطورت في ظل مشيخات تقليدية، أما الذين حاولوا أن يمشوا مثل الحمام فقد نسوا مشيتهم ومشية الحمام.

منذ البداية لم تستطع هذه البلدان التوافق، لذلك طلب السوريون من فيصل بن الشريف حسين أن يحكمهم، وبعد احتلال سورية استدعاه العراقيون، ورضي الليبيون بحفيد مهاجر جزائري ليكون ملكًا عليهم، فقد كان من المستحيل أن يرضى أهل برقة بأن يحكمهم شخص من طرابلس والعكس صحيح، حتى الدولة الوحيدة التي ظهرت في فزان وهي دولة أولاد محمد أسسها مهاجر مغربي**، والدولة الوحيدة التي خضعت لها ليبيا هي الدولة القرهمانللية، التي أسسها ابن مهاجر تركي. بعد 72 سنة من الاستقلال يعود الليبيون إلى المربع الأول، ولكن هذه المرة بدون ملك ينحدر من الأدارسة، وبميراث مسموم تركه القذافي، فإذا كانت المشكلة قبل فبراير هي القذافي نفسه، فأصبحت بعد فبراير عدد النسخ المشوهة من القذافي، وكأن القنفذ ترك جيناته المعدية لتصيب الجميع. دفن القذافي في قبر مجهول، لكن ميراثه لا يزال يتجول في الشوارع، ويدخل ويخرج من كل البيوت.

* أحمد بن بلة وصل إلى السلطة نتيجة حرب تحرير وطني ضد الاستعمار الفرنسي. بومدين وصل عن طريق انقلاب عسكري. (المحرر).
** موريتاني. (المحرر).