Atwasat

نيويورك نيويورك

جمعة بوكليب الأربعاء 13 مارس 2024, 08:57 مساء
جمعة بوكليب

نيويورك مدينة بوجهين. واحد مشرق مضيء، وثانٍ شديد العتمة ومخيف. وقد يرى البعض أن تلك السمة لا تخص نيويورك وحدها؛ بل تشمل عديداً من المدن في العالم، وخاصة الكبيرة منها. وهو صحيح إلى حد ما. لكن نيويورك اشتُهرت من بينها بكونها مدينة استقطبت أكبر مافيات العالم الإجرامية، وتحولت شوارعها إلى مصائد موت يومي. ولهذا السبب، محوت مبكراً نيويورك من قائمة المدن التي يتوجب عليَّ زيارتها، وتذوق طعم التسكع في شوارعها. ومن حين لآخر، كان يعنّ لي تغييررأيي، إلا أنني قررت ترك الأمر للصدفة. الغريب أن الصدفة المأمولة لم تأتِ مطلقاً. ومع مرور السنين، أدرت ظهري لفكرة الزيارة، كما أدرته لأشياء أخرى في الحياة. الغريب أيضاً، أن نيويورك تستقطب سنوياً ملايين السائحين.

وما لا نختلف حوله، هو أن للصدفة أدواراً مهمة في التاريخ وفي حيواتنا، وكثيراً ما قرأنا عن دورها في تغيير مجريات أحداث، تسببت في حدوث انعطافات لا تنكر في مجرى التاريخ البشري، سلباً وإيجاباً.

الصدفة وحدها، ذلك اليوم، جعلتني أقرأ مقالتين في يوم واحد، وفي مطبوعتين مختلفتين، تتناولان مدينة نيويورك، وعلى وجه الدقة، سُمعتها ذائعة الصيت في الجريمة. وقبل أن يداهمني النوم ليلاً، سمعت خبراً في إذاعة بي بي سي العالمية، يتناول نفس الموضوع! وأذكر أنني فكرت في الأمر وابتسمت، وبدت لي الصدفة مثل الحافلات العامة في لندن. فهي أحياناً تتأخر، وتجعلك تنتظر وقتا طويلاً، ثم فجأة تلوح حافلتان وراء بعضهما في الطريق قادمتين نحوك، وأحياناً ثلاث.

البداية أنني قرأت مخطوطاً لترجمة من اللغة الإيطالية إلى العربية، أنجزها مؤخراً الصديق الفنان التشكيلي والكاتب أحمد الغماري لكتاب اسمه «مشط مينيرفا» للكاتب والروائي الإيطالي إمبرتو إيكو، يحتوي مقالات صحفية نشرها في جرائد إيطالية تعليقاً على قضايا متعددة. ترجمة الصديق الغماري دقيقة وأنيقة، واستغرقت منه وقتاً وجهداً كبيرين. وما زالت في طور المراجعة اللغوية، ولم تجد طريقها بعد إلى الطباعة والنشر.

ولفتت انتباهي مقالة عن مدينة نيويورك، دوّن فيها السيد إيكو انطباعاته وملاحظاته عن تلك المدينة، من خلال زياراته العديدة لها. وكما هو متوقع، كلما كانت نيويورك محط حديث أو موضوع مقالة، لا بد، باستثناءات نادرة، أن ينعطف نحو ما يحدث في شوارعها من جرائم قتل يومي.. وفي هذا السياق، أذكر أن الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن، في رده على سؤال في مؤتمر صحفي، حول عدد القتلى من الجنود الأميركيين في أفغانستان، قال إن عدد من يقتلون في شوارع مدينة نيويورك يومياً يفوق بكثير عدد الجنود القتلى في أفغانستان!!

بعدها بساعات قلائل، قرأت مقالة في جريدة نيويورك تايمز، لكاتب اسمه بول كروجنر، يتحدث فيها عن الصيت السيء الذي لحق بمدينته نيويورك عبر السنوات، وما زال لاصقاً بها كلطخة على الجبين. ويرى أن المدينة في السنوات الأخيرة تختلف عما كانت عليه في الماضي. واعترف أنه كان في سنوات مضت، يحرص على عدم الاقتراب من مناطق بعينها بسبب سمعتها السيئة والخطرة. الكاتب يرى أن ولاية نيويورك اليوم أقل جرائم قتل من ولايات أميركية عديدة، وضرب مثلا بولايتي شيكاغو، وألاباما. والحقيقة، أن النيل من ولاية ألاباما كان هدف الكاتب.

وكل المقالة كان رداً على تصريح أدلى به سيناتور جمهوري من ولاية ألاباما، تطاول فيه على الرئيس الأميركي جو بايدن، على تساهله في مسألة الهجرة، حيث يرى أن شوارع أغلب المدن الأميركية تحولت إلى مسارح لجرائم يرتكبها مهاجرون. وذكر السيناتور مدينة نيويورك كمثال. وفي رده، سعى كاتب المقالة إلى الاستشهاد بالإحصاءات الرسمية، مبيناً من خلالها، أن نسبة جرائم القتل في ولاية نيويورك انخفضت في السنوات الأخيرة بنسبة 13%. وأن أكبر نسبة جرائم قتل سجلت في ولاية ألاباما التي ينتمي لها السناتور.

في ساعة متأخرة قليلاً من الليل، وأنا أستعد للنوم، وكعادتي، حرصت على متابعة الأخبار والتعليقات والحوارات في إذاعة بي بي سي العالمية. ولشدة استغرابي، كان ضمن النشرة الإخبارية، خبر يتعلق بنيويورك، وتحديداً بما يحدث فيها من جرائم. يقول الخبر أن سلطات المدينة استدعت قوات الحرس الوطني لحراسة محطات القطارات والأنفاق الأرضية للمشاة بسبب ارتفاع حوادث الاعتداء على المواطنين وخاصة في ساعات الليل. وأن نسبة الاعتداءات ارتفعت في محطات القطارات والأنفاق الأرضية خلال شهر يناير بنسبة 50 في المئة.

الخبر الإذاعي أعاد إلى ذاكرتي ما قرأته في النهار حول المدينة. وأبان أن الحماس للرد على خصم سياسي أخذ بجماع الكاتب كروجنر، وأنساه أن إحصاءات الجرائم في المدينة تتغير بسرعة كما يغير المرء قميصه.