Atwasat

المطر الأحمر والرقص مع الذئاب

سالم العوكلي الثلاثاء 12 مارس 2024, 09:44 مساء
سالم العوكلي

في زيارته الأخيرة لدرنة، أحضر لي الصديق نجيب الحصادي مجموعة كتب، ورفع أحدها وقال لي هذه سيرة عيسى عبدالقيوم، فقلت له قصدك يوسف القماطي. لم أنتبه لحظتها لِما كُتب على الغلاف، لكن دائماً كان لي فضول لأعرف سيرة عيسى وتجربته الثرية ومغامرته الصاخبة منذ أن غادر، نهاية عقد الثمانينيات، الوطنَ في مقتبل عمره، يدفعه اعتقاد راسخ «بأنه يستجيب لتعاليم دينه» كطريق لخلاص وطنه، ولم يعد إليه إلا بعد ثورة فبراير ليبرالياً وحالماً بانتقال البلد إلى الدولة المدنية والديمقراطية وفضاء الحريات، وعبر هذه المغامرة الطويلة خاض تجارب وتحولات جوهرية كانت كثيفة بقدر ما هي مرتبكة على كل الأصعدة. قلت لنجيب حسناً سيكون أول كتاب أقرأه مستجيبا لهذه الرغبة الكامنة لمعرفة هذه السيرة، وحين وصلت إلى البيت كان أكثر ما شدني اسم الكتاب، ثم انتبهت إلى تجنيس (رواية) على الغلاف الأحمر الدمّي.

وعرفت أني أمام لعبة أخرى، فعيسى بمخزونه الأدبي وحبه للأدب لا يمكن أن يفرغ جعبته إلا في عمل روائي مستوحى من سيرته، فالانتقال من «حديقة الأشباح» إلى عش الدبابير، ثم القاهرة ولندن، وغنى هذه التجربة بم يشبه الفانتازيا لا يمكن أن تحيط به إلا رواية استخدم فيها المؤلف حبكة مثيرة جمعت بين الأزمنة والأمكنة والأفكار اللاحقة والسابقة في مركب كيميائي واحد استطاع بحنكة أن يجعله سردية متماسكة، مقلقة بقدر ما هي مشوقة.

في سيرة إدوار سعيد (خارج المكان) التي أشبه ما تكون بالعمل الروائي، يعيش إدوارد منذ البداية الارتباك الذي يعرضه له اسمه المركب من اسم أول إنجليزي وثانٍ عربي، لكنه اسم واحد ينشطر إلى عالمين وثقافتين، ربما سيكون وراء اهتمامه بموضوعة الاستشراق ومفهوم الآخر الذي سخّر لهما حياته، لكن شخصية رواية "المطر الأحمر" الأساسية تعيش ارتباك اسمين، ربيع وأبوالحسام، يعيشان في حلبة جسد واحد في صراع درامي كل مرة يتفوق فيه أحدهما، ولعل ملاحظتي التي قلتها لنجيب حول الاسمين (عيسى عبدالقيوم ويوسف القماطي) تَمتُّ بصلة لقلق هذه الرواية.

ازدواجية الأسماء أمر دارج، فثمة أسماء ثانية تخلقها الشهرة، أو يصنعها المحيط كلقب شائع، أو يفرضه المجتمع المحافظ على من رغبوا في الاختفاء خلف اسم مستعار، لكن الاسمين للمؤلف ولبطل الرواية لم يفرضهما سوى الخوف من البطش الذي يلاحق كل مشتبه به في أرض تتوجس من الوعي، وعالم برمته يتوجس من الأشباح التي خلقها.

تغطي الرواية مسافة زمنية ممتدة ما بين منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، أو ما يسيمها «العشرية السوداء» في ليبيا، من حادثة تفجير ملهى لابيل في برلين الغربية التي أُتهِم بها القذافي وصولاً إلى حادثة تفجير برجي التجارة في نيويورك التي أتهم بها بن لادن، وفي أمكنة تتنقل ما بين بنغازي وسجن طرابلس «حديقة الأشباح» ثم تونس، وبيشاور «عش الدبابير» وجلال أباد في أفغانستان، ثم العودة بعد أن بدأت شخصية ربيع تنتعش بالمراجعة والنقد بقدر ما تضمر شخصية أبو الحسام، إلى القاهرة، ومحاولة عيش حياة هادئة ومستقرة دون أن يخفت هاجس الثورة الذي تحول من هاجس ديني إلى سياسي، وإن كانت الرواية تذهب إلى تفكيك هذا الصراع الذي لا يخرج عن كونه صراعاً سياسياً يتقنع بالدين من أجل الحشد والوصول إلى السلطة، وفي القاهرة تلاحقه أصابع الطاغية المتلصصة عبر العالم ــ ولأن هذه الأمة (العربية) لا تتفق دولها إلا في ما يخص الجانب الأمني وأكثر قممها نجاحا هي قمة اجتماع وزراء الداخلية العرب.

هذا مني وليس من الرواية ـ فإن السلطات المصرية في تلك الفترة كانت تطلب من كل مشبوه بمعارضته للنظام الليبي المتصالح حديثا مع الجارة مصر أن يرحل خلال شهر، وقبل إتمام الشهر وجد ربيع نفسه لفترة في سجن القناطر، لكن صديقه المحامي المثقف الذي تعرف عليه في أحد مقاهي القاهرة، كان قد سعى لأن يحصل له على تأشيرة إلى بريطانيا، حيث سيصل إلى لندن التي يسميها صديقه المحامي المصري «محمية الخواجات» بعد أن نصحه معارض ليبي تعرَّفَ عليه في القاهرة، أن يقول بمجرد وصوله إلى مطار هيثرو: «أنا أطلب اللجوء السياسي في بريطانيا» وكتبها له في ورقة حتى يحفظها جيداً قبل وصوله.

ربيع الذي كتب كل يومياته وتأملاته وأفكاره وصراع شخصيتيه في مذكرة زرقاء رافقته حيثما ذهب، سينسى هذه المذكرة على مقعد في المترو في لندن، فيرميها شاب غاضب بعد أن أعلن عنها كمذكرة يبدو أنها مكتوبة بالهيروغليفية، في سلة المهملات، ليلتقطها البروفيسور الفضولي سيمون، أستاذ علم فلسفة الأديان والتاريخ في جامعة سواس بلندن، ويستعين بصديقه ويلسن لترجمتها فتطّلع زوجته العاملة بمكتبة في الهوس بالحُزم التي يبعثها المترجم مراراً، وتجري بينهما حوارات حول ما يصلهم من ترجمة تجعلهم يتفقان مع ما يرد فيها وفق مرجعيتيهما الخاصة، خصوصا تلك الأيادي الدولية الخفية التي تتلاعب بنداء الجهاد لدى الشبان العرب، وجميعهم يتفقون في نقاط كثيرة مع تحليلات ربيع لما يحدث في الشرق الأوسط والإسلام السياسي وأن ما يسميه «الأيادي الخفية» تتلاعب بهذه الجماعات الواقعة تحت تسمية الإسلام السياسي وتدير مصائرها.

وبينما يدرك سيمون وكلير ذلك من خلال اطلاعهما وبحثهما النظري، يصل ربيع إلى هذه النتيجة عبر استطلاع ميداني واستجواب روائي للوقائع ومن قلب الأحداث، فتتالى الصدمات التي تقوض ما انطبع في ذهنه عن فكرة الجهاد والثورة التي ترى الحل في الإسلام «أصبح يرى نفسه ترساً صغيراً في ماكينة ضخمة» ماكينة تديرها مخابرات الدنيا وصراعاتها في بيشاور التي يسميها عش الدبابير. وهذا التحول المريع ما غاصت فيه الرواية، ومعرفة المؤلف بأسرار هذه المغامرة ما جعلت الرواية غاية في تفكيك هذا التحول. ربيع تعرض لصفعة في الشارع شكلت مفصلاً في حياته، شبيهة بالصفعة التي تعرض لها البوعزيزي في أحد شوارع سيدي بوزيد، والتي يعتبرها المتابعون فتيل الثورة التونسية والربيع العربي، بينما الصفعة التي تعرض لها ربيع لم تفض به إلى خلاص فردي متمثلاً في حرق هذا الجسد الذي يهينه يومياً، لكن جعلته يفكر في خلاص جماعي منتشيا بفكرة الثورة، وهي الفكرة الغنائية التي قادته إلى تجربة مريرة سرعان ما اكتشف أوهامها بما يتمتع به من مرجعية ثقافية ونزاهة وعقل نقدي لا يستسلم بسهولة.

تعلم الزوجة كلير المهووسة بكاتب المذكرة أنه وصل أخيراً إلى لندن، بعد أن قرأت الحزمة الأخيرة، وتفرح لأنه موجود في نفس مدينتها، ومن كثرة انسحارها به أصبحت تتخيل أنها ستتعرف عليه لو مر على رصيف بقربها، لكنها تلجأ لفكرة أخرى للتواصل معه وهي تحويل هذه المذكرة إلى رواية باسم «المطر الأحمر» الذي اقتبسته من أحد كوابيس ربيع التي تحدث عنها في المذكرة. بعد سنوات يمر ربيع بجوار مكتبة ترافلقار سكوير فيرَى في واجهتها كتاباً معروضاً باسم (The Red Rain)، وذكَّره الاسم بحلمه الأول في السجن الذي رأى فيه مطراً أحمر، فدخل واشترى نسخة منه، وحين قرأ تصدير الناشرة في الرواية بعد أن وصل إلى شقته، دق قلبه بسرعة متسائلاً: هل هي مذكرته التي فقدها في مترو الأنفاق؟! وحين شرع في القراءة بدأت تظهر خفايا هذه المذكرة، وكل الأسماء التي صادفها ربيع في رحلته، والأمكنة: «المنستير.. بيشاور.. القاهرة.. لندن، لا يمكن أن تكون صدفة، إنها هي».

بعد سنوات، يجلس سيمون الذي أصبح يسير بعكاز وزوجته كلير المسنة على طاولة في ركن بار، وكانت إلى جوارهم طاولة عليها ثلاثة شبان تنبيء عن انتمائهم الشرق أوسطي ملامحهم وصخب حديثهم الذي يخلط الإنجليزية بمفردات عربية. التفت نحوهم سيمون بشكل عفوي فانتبه إلى أن أحدهم يمسك برواية «المطر الأحمر» بين يديه ويشير إلى مقدمتها وهو يتحدث مع صاحبيه،. غمز كلير فالتفتت وشاهدت الرواية فقالت همسا يبدو أنها قد عادت إلى موطنها الأصلي.

كل من يقرأ الرواية سيتساءل هل هي سيرة عيسى أم يوسف الذاتية؟ هل أسماء الشخصيات حقيقية ؟ إلخ . كل هذا لا يهم. نحن أمام عمل روائي مسبوك يخلط الواقع بالخيال، وإن كان الواقع أحياناً أكثر شطحاً من الخيال، لكن الأهم أنها رواية تفكر، وفي مفهومنا السطحي الدارج أن ثقل الأفكار عبء على فن الرواية، لكن طبيعة الشخصية التي كتبت المذكرة الزرقاء، قارئة وناقدة ومتأملة في كل ما يقابلها وباحثة عن أجوبة لأسئلتها الشائكة في الكتب وعند أصحاب المعرفة الذين تبحث عنهم، وبالتالي فيومياتها ليست صراعاً مع شظف الحياة فقط، لكنه صراع محتدم مع الأفكار المتصادمة التي تغزوها حتى أثناء الليل، وشخصياً أعتبر الرواية التي لا تفكر مجرد حكاية طويلة أفقية، والمهم أن يذيب المؤلف الأفكار في كيمياء السرد الروائي بشكل لا يجعلها متطفلة أو ناشزة، وهذا ما نجحت فيه رواية المطر الأحمر التي حافظت على أهم مقومات الرواية: أن يكون شرطها الأخلاقي الوحيد هو المعرفة، وأن تقول ما لا يقال بغير الرواية.