Atwasat

تشريح القنفذ ـ إصلاح نظام القذافي (28)

عمر الكدي الإثنين 11 مارس 2024, 10:37 مساء
عمر الكدي

عندما عرض عليَّ أن أكون محررًا ثقافيًا لجريدة «الجماهيرية» عام 1988، توهمت أن هناك صراعًا بين جناحين في اللجان الثورية. جناح محافظ يريد أن تبقى الأمور على ما هي عليه، وجناح إصلاحي يريد تغيير المشهد السياسي في ليبيا على طريقة البريسترويكا، ففي مارس من نفس العام أطلق سراح السجناء السياسيين فيما عرف بـ«أصبح الصبح»، وألغيت قوائم الممنوعين من السفر وصدر عفو عام لصالح المعارضين المنفيين، وفي عام 1992 أصبحت، تحت ضغوط، رئيسًا لتحرير الجريدة، ولكنني وصلت إلى القناعة بأن هذا النظام لا جدوى من إصلاحه، لذلك استغللت أول فرصة وتركت الجريدة، ومنذ ذلك الوقت بدأت في معارضة النظام من الداخل، من خلال مقالاتي في مجلة «لا» وجريدة «الشمس»، حتى أوقفت عن الكتابة في جريدة «الشمس» بأمر من القذافي، ثم توقفت مجلة «الفصول الأربعة»* ومجلة «لا» اللتان كانتا تصدران عن رابطة الأدباء والكتاب حيث عملت منذ عام 1993، وبعد محاولة اعتقالي وتقديمي للمحكمة الثورية بسبب قصيدتي «أرى ما لا ترون»، اقتنعت بأن الخروج من ليبيا هو أفضل قرار أمامي، وفي المنفى كنت أتابع محاولات الإصلاح التي يقودها سيف الإسلام، وانضمام الكثير من أصدقائي لمؤسسة الغد بكل فروعها، إلا أن قناعتي بعدم جدوى إصلاح النظام ظلت راسخة.

في المنفى اكتشفت أن الكثير من المعارضين وضعوا كل البيض في سلة سيف الإسلام، وأنهم قابلوه في لندن وفي عواصم أوروبية أخرى، وخرجوا بانطباع قوي بأن سيف شاب دمث وخلوق ومتحمس للإصلاح أكثر منهم. الإخوان المسلمون حاولوا أن يكونوا ساعده الأيمن، وساعدوه في التفاوض مع سجناء الجماعة الإسلامية المقاتلة، وفي المراجعة التي أدت إلى خروجهم من السجن، بينما ساعده الآخرون في قضايا حقوق الإنسان من خلال جمعياتهم في الخارج، وكنت أنصحهم بالتريث مفضلًا أن تكون هذه اللعبة لعبة الموجودين بالداخل، فمن حقهم الانخراط في مشروع سيف الإسلام لأنه لا يوجد بديل غيره، وأن دور المنفيين هو رفع السقف إلى أعلى مستوى ممكن، ولهذا كتبت مجموعة من المقالات تشكك في نية النظام الجدية في الإصلاح، وأنه ترك ابنه يفاوض الغرب للخروج من العقوبات الدولية والتطبيع معه، خوفًا من مصير يشبه مصير صدام حسين، وبعد فشل الأمريكان في العراق تراجع النظام عن كل الوعود التي أطلقها سيف الإسلام في لقاءاته السنوية بالشباب، وفي عام 2008 أعلن سيف الإسلام انسحابه من كل المشاريع التي أطلقها قبل عشر سنوات، ولم يبق أمام الشباب اليائس إلا الانتفاضة ضد النظام، وهو ما تحقق في 2011.

فشل الرجل الثاني في إصلاح النظام، بعد سلسلة من الاجتماعات عقدها مع ثمانين من خيرة السياسيين وأساتذة الجامعات والمثقفين طوال شهر رمضان عام 1993، ورد القذافي على مشروع الإصلاح الذي أحضره جلود، بهدم مبنى رئاسة الوزراء ومبنى البرلمان القديم، فانعزل جلود في بيته في حي الظهرة وفي شاليه المصيف البلدي، يعاشر سقط المتاع من القبضايات وذوي السوابق، ويشبع نزواته في ظلام الشاليه حتى لا يسمع إلا أصوات الأمواج تتكسر على الشاطئ، كما حاول أحمد قذاف الدم طرح مشروع إصلاحي بتشكيل ما سمي بحكومة الإصلاح، وخلال مفاوضاته مع عبد المنعم الهوني عرض عليه رئاسة الحكومة، ويبدو أن الهوني تحمس للمشروع ولكن القذافي سرعان ما تراجع، فعين الهوني مندوبًا لليبيا في الجامعة العربية، دون أن يضطر للعودة إلى ليبيا، وأمر أحمد قذاف الدم بالالتحاق بكتيبته بطبرق، فلم يبق في ملعب الإصلاح إلا الوريث سيف الإسلام.

كان القذافي يعيش في عالم افتراضي نسجه بنفسه، وكان عليه أن يخرج إلى خيمته ليؤكد حضوره الطاغي، وقد سلم كل شيء لأبنائه ولعبدالله السنوسي والبغدادي المحمودي، بينما انصرف الشباب المخدوعون إلى العالم الافتراضي ليشعلوا الثورة. عندما علم القذافي أن سيف الإسلام أسس مركزا للديمقراطية يترأسه المحامي ضو المنصوري الذي اختطفه المعتصم، أمر بأن يجرف المركز بالبلدوزرات، فقالوا له إن المركز موجود على الإنترنت، وهو ما يؤكد غياب القذافي عن واقعه الذي كان لا يزال يعتقد أن ما يحركه هو المذياع والتلفزيون.

بعد انتفاضة 2011 كان على سيف الإسلام تبني كل مطالب المتظاهرين، ولكن، ووفقًا لشهادة عبدالمطلب الهوني، لم يلق سيف الإسلام الخطاب المتفق عليه، واختار خطابًا مناقضًا ومناهضًا للثورة، فيما بعد علمنا أن العائلة جردته من الصلاحيات كافة، وحملته مسؤولية ما حدث، ولهذا حاول أن يزايد على شقيقه المعتصم الذي حاز على ثقة العائلة والقبيلة، وتحول سيف من مصلح إلى مدافع شرس عن نظام أبيه، وهو ما يؤكد عدم نضجه السياسي، وعدم قدرته على قيادة الإصلاح، وإنما لعب لعبة غير قادر على استكمالها، واتضح أن القذافي خير أبناءه فمن يقاتل وينتصر سيخلفه. محمد الذي كان خارج الحساب كان أول الهاربين، ثم الساعدي وهانيبال وتركوا المعتصم وسيف الإسلام وخميس يدافعون عن النظام. قتل من قتل ونجا سيف الإسلام بأعجوبة ووجد نفسه أسيرًا لدى الزنتان، وهو مصير لم يتوقعه أبدًا، فالمصلح أصبح في يد قبيلة بدوية لا يعنيها الإصلاح بقدر ما تعنيها الغنيمة، ولهذا لم يخرج خلال تقديم أوراق ترشحه للانتخابات الرئاسية، وهو يرتدي البدلة الأوروبية، وإنما ارتدى ملابس بدوية تعكس الرغبة في الانتقام أكثر من الرغبة في الإصلاح، وأن النخبة التي أحاطت به طوال عقد كامل اختفت، ولم يبق أمامه إلا «خوت الجد».

منذ خطاب زوارة عام 1973 اعتمد القذافي نظرية كيس الخيش المليء بالفئران. عليه أن يرج الكيس حتى لا تتمكن الفئران من قضم الكيس والخروج منه، وبالتالي لم يستقر على نظام إداري ثابت، ومنذ إلغاء القوانين المعمول بها في البلاد أصبح القذافي مصدرًا لقوانين تتغير باستمرار، إلا أن انصراف الشباب عن منظومة القذافي كافة بعد انكشاف سيف الأحلام، جعلهم يلتصقون بالعالم الافتراضي، الذي وجدوا فيه حريتهم وآمالهم بالتغيير في انتظار اللحظة المواتية، وهو ما تحقق في 15 فبراير 2011، وعندما رأى القذافي المتظاهرين وهم يطالبون بسقوط نظامه، اكتشف أنه توقف عن رج كيس الخيش فقضمته الفئران وخرجت إلى الشوارع، فصرخ يائسًا «من أنتم أيتها الجرذان».

روى لي مصدر مطلع أن كونداليزا رايس وزيرة الخارجية في عهد بوش الابن، عندما زارت ليبيا في عام 2008، طلبت لقاء مغلقًا مع القذافي لا يحضره إلا مترجمها، وفي هذا اللقاء طلبت رايس من القذافي التنحي عن السلطة، لصالح ابنه سيف الإسلام، ومترجم رايس هو عربي يعمل في وزارة الخارجية الأمريكية، التقى بمصدري الذي روى له ما جرى في ذلك الاجتماع، وثمة عدة افتراضات لما جرى بين رايس والقذافي، الافتراض الأول أن الأمريكان ضاقوا ذرعا بالقذافي ويريدونه أن يختفي من المشهد السياسي برمته، والافتراض الثاني أن سيف الإسلام هو من طلب من الأمريكان الضغط على والده للتنحي، بدليل أنه أعلن انسحابه من جميع المشاريع في نفس العام، أو على الأقل هذا ما فهمه القذافي من حبيبته «كوندي» كما كان يصفها، ومثل هذا النظام يستحيل إصلاحه.

* مجلة «الفصول الأربعة» لم تتوقف. ومجلة «لا» أَوقفت أمانة الرابطة صدورها بسبب طلب النظام أن تبتعد عن تناول الشأن العام وتقتصر على المجال الأدبي فقط، وأن يخضع كل عدد لرقابة مسبقة من إدارة رقابة المطبوعات قبل طبعه. (المحرر).