Atwasat

منطلقات «الجابري» الفكرية في نقد العقل العربي! (5-8)

سالم الهنداوي الخميس 07 مارس 2024, 03:19 مساء
سالم الهنداوي

بعد مضي عقدين ونيف من الزمن في الألفية الثالثة، هل نقول انقطع مشروع «نقد العقل العربي» أم غابت النخبة التي كانت حملت السؤال الكبير لعقود وانتهت جميعها جسدياً فانتهى المشروع عمداً على يدي ساسة العهد المشبوه؟!

كيف ترى «الثقافة العربية» اليوم نهاية مشروع بهذا الحجم الفكري كاد أن يفصل بين حقبتين تاريخيتين مهمتين عاشهما العرب وتأثر بهما؟.. وهما حقبة ما قبل الاستعمار التي شهدت مرحلة تكوين الجنين المعرفي بواقع الجغرافيا والحياة، وحقبة ما بعد الاستعمار التي شهدت نهوضاً معرفياً بقيمة الاستقلال بوصفه صانعاً للمستقبل، فبادرت النخب الوطنية من دعاة التحرير والاستقلال إلى وضع كيانات الدولة الحديثة وإدارتها بكوادر بشرية قادرة على البناء والتطوير.. إلا أن الأمر لم يذهب للعقل «المفكر» وإنما ذهب للعقل «المستفيد» صاحب المصلحة في سلطة الأمر الواقع.. وهكذا تكونت الدولة العربية الحديثة خارج مشروع «التنوير» الذي ظل في محفظة النخبة وسرقت منه الدولة الحديثة ما تيسر من شعارات مجانية لمشروعها «الديمقراطي»، في ظل حرية ناقصة، وهوية وطنية مهددة بالانقراض!
في مشروع «نقد العقل العربي» يتساءل المفكر المغربي «محمد عابد الجابري» عن إمكانية قيام نهضة بغير عقلٍ ناهض، ويرى الكاتب «عادل الطاهري» أن الجابري يقصد من وراء هذا التذكير: التنبيه لغياب مشاريع فكرية رائدة في الفكر العربي، الحديث والمعاصر، تتناول بالنقد العقل العربي، وتحاول الكشف عن تلك الآليات البنيوية، التي تحكمت، ولا تزال، في إنتاج المعرفة، تلك الآليات التي ورثناها عن الماضي، وقد يبدو بداهة: أن أي مشروع للنهضة العربية، لا بد أن يجعل من تعرية جذور التخلف في العقل المسيطر على هذه الثقافة، على رأس قائمة جدول أعماله، ذلك أن الاستمرار في الاشتغال الفكري، بنفس الطريقة المعهودة، التي تنتمي إلى ماضي الانحطاط، والاسترسال في التفكير بأساليب تقليدية وعتيقة، لن تسهم إلا في إعادة إنتاج هذا الواقع الذي نشتكي منه؛ فالعقل، في آخر المطاف، هو: المشرع الذي يفرز لنا، تقريباً، كل ما نراه من تجليات على أرض الواقع، وسواء كان هذا الأخير، متقدماً أم غارقاً في التخلف والتراجع؛ فهو، في الحقيقة، ليس إلا انعكاساً للعقل، ولهذا؛ يقول عابد الجابري محدداً، بشكل تقريبي، التاريخ الذي كان يفترض أن تنطلق فيه مثل هذه الأعمال الناقدة للبنى اللاشعورية للعقل العربي: «كان من المفروض البدء في هذا المشروع قبل مئة سنة»!

قد يبدو واضحاً أن الجابري يلمح، هنا، إلى أن هذا العمل، كان من الضروري أن يساوق ذلك الانبعاث الإسلامي، الذي حدث جراء ما سمي بصدمة الحداثة، والاحتكاك بالغرب، الذي أبانت عملية مقارنة، مستبطنة ولاشعورية، عن هوة عميقة بين الشرق والغرب؛ شرق لا يزال يحتفظ بالشرط التاريخي للقرون الوسطى: تفكيره تقليدي قديم، يشكل الدين، المؤول تأويلاً نكوصياً، محوره الأساسي، في غياب شبه تام للاستقلال العقلي، وبناء اجتماعي قار وغير متحرك، نظراً إلى ثبات البناء الاقتصادي نفسه الذي لا يؤدي إلا إلى الإبقاء على السكونية والركود، ونظام سياسي عتيق خالٍ من أية مؤسسات تمثيلية، تكون صوتاً صادقاً للشعب، وقبل هذا، وبعده كذلك، الاحتفاظ بعتاد عسكري، هزيل ومتضعضع، لا يمكن أن يتصدى البتة للسلاح الناري المتطور، الذي كانت تمتلكه أوروبا التي كانت، بالإضافة إلى ذلك، تعيش رخاءً اقتصادياً، وتغلغلاً واضحاً في صفوف الطبقات الشعبية لمنظومة حقوق الإنسان، ومفاهيم الحداثة بشكل عام، في رؤيتها إلى السياسة، والدين، والطبيعة، والتاريخ، والفن، إلخ.. لكن لا شيء من ذلك قد تحقق؛ لهذا يشعر الجابري في مشروعه، أنه يضع تلك اللبنة الأولى، من غير الاستناد على أي أساس سابق، ونرى هنا، قبل الانخراط في مشروع الجابري للحفر في تاريخ العقليات؛ أن ننطلق، كخطوة أولية، من تحديد الخطوط العريضة لفكره، حتى تشكل لنا رؤية شمولية عن المشروع في مجمله، وتكون لنا رؤية من علٍ؛ فيسهل علينا التموقع داخل الدروب المتشعبة لمشروعه، فنقد العقل العربي، كعمل أساسي، وبؤرة مركزية في إنتاجه فعلاً، على ضخامته، حجماً وكماً، وغناه بعدة معرفية، من حيث استيحاؤه لمختلف مناهج العلوم الإنسانية المعاصرة، هو جزء من كل؛ إنه مشروع يرتبط بما قبل، وما بعد، وينسج في ترابط وتلاحم، غير قابل للانفصال، خيوط مشروع متكامل.

رغم عدم إعارته الأهمية التي يستحقها، يقول «عادل الطاهري»: إن مشروع عابد الجابري، في الحقيقة، قد عبر عن نفسه، من أول مؤلف اشتهر به الناقد في الساحة الثقافية العربية، ولعل ما يذكره الجابري كخلاصة للجزء الأول من نقد العقل العربي، هو ما أوحى إليه، قبل ذلك التاريخ بغير قليل؛ الاهتمام بفلسفة العلوم، إنه كتابه «مدخل إلى فلسفة العلوم» بجزئيْه.. صحيح أنه كتاب مستقل؛ بل وألفه في سياق أكاديمي، على اعتبار أنه كان أستاذاً للإبستيمولوجيا في الجامعة، لكنه، من البداية، يكشف عن طبيعة اهتمامات الأستاذ، والهواجس التي كانت تسيطر على فكره؛ إنه التوق والطموح لتدشين لبنة أساس، لانخراط العقل العربي في الإشكالات العلمية، وتطعيمه بآخر المفاهيم التي أنتجها الفكر المعاصر في حقل العلوم التجريبية، ولا يخفى؛ أن هذا الاختيار لم يكن اعتباطياً، إن نزوعه هذا، تحدد بما يتسم به العقل العربي من استغراق في القضايا الميتافيزيقية، إنها، إذن، رغبته في إحداث قطيعة معرفية مع المرحلة اللاهوتية والميتافيزيقية، إن صحت استعارتنا لمفاهيم المدرسة الوضعية، التي هيمنت، منذ «عصر التدوين» على تصوراته وانشغالاته، ومع أن إبداع مفهوم «العقل العربي»، الذي يحتكر الجابري براءة اختراعه، يرجع إلى الثمانينيات؛ فإن مما يدل على أن ذات الهم، كان حاضراً في السبعينيات؛ أي قبل حتى أن تتخمر في ذهنه عجينة مشروع نقد العقل العربي، قول المؤلف: «ونحن في الوطن العربي، ما زلنا متخلفين عن ركب الفكر العلمي، تقنيةً وتفكيراً، وما زالت الدراسات الفلسفية، عندنا، منشغلة بالآراء الميتافيزيقية، أكثر من اهتمامها بقضايا العلم والمعرفة والتكنولوجيا، الشيء الذي انعكست آثاره على جامعاتنا ومناخنا الثقافي العام، هذا في وقت نحن في أحوج ما نكون فيه، إلى تحديث العقل العربي، وتجديد الذهنية العربية».

أما من حيث مسار المشروع الفكري للجابري؛ فهو يتوزع بين مؤلفات، تمهد للمشروع، وهي في غاية الأهمية، رغم طابعها التأسيسي، وذلك من حيث بناؤها، وكذا، من جهة أنها تحمل داخلها إرهاصات نتائج مشروعه التطبيقي؛ فهي ذات نفس منهجي، تنتقد جملة المناهج التي وظفت من قبل التيارات الفكرية، السائدة في الساحة الثقافية العربية، وتبشر بمنهج بديل في كتابه «نحن والتراث»، و«الخطاب العربي المعاصر».. ثم تلا هذه المؤلفات التمهيدية، ذات المسحة المنهجية التبشيرية، تطبيق فعلي لمنهجه البديل في «نقد العقل العربي»، بأجزائه الأربعة: «تكوين العقل العربي»، و«بنية العقل العربي»، و«العقل السياسي العربي»، ثم يختم هذه الملحمة النقدية، بكتاب عن منظومة القيم في الثقافة العربية «العقل الأخلاقي العربي».

لا ينقص الفكر العربي مراجعة آليات التأسيس غير المفقودة في التراث والحداثة والأسئلة الجوهرية للعقل وطرائق التفكير، خاصة وأن العالم يشهد اليوم تناغماً معرفياً كبيراً جراء تيار الحداثة واستخدامات العلوم، من التكنولوجيا الرقمية إلى تقانة النانو إلى الذكاء الصناعي، وهي شرائح علمية مؤثرة، تقصد الإنسان بوجه عام ولا تقتصر على جنس بشري بعينه، وتقصد الكون العام بكواكبه ومجراته، وبالتالي تقصد هذه الأرض موطن الإنسان!

كانت المعرفة ولا تزال حق الجميع على هذه البسيطة، فلا حدود للأثر العلمي الذي يبتكره الإنسان ويصنعه للبشرية، فالعلوم تقاس بفاعليتها الجامعة وليس بمحدودية مقتصرة على عنصرية شعوبية أو عصبية مجتمعية، بعكس النتاج الفكري السياسي «الانتهازي» الذي يضاعف من حدة نزعة التماهي ويسابق الزمن على الفوز بنظرية الممكن من خلال الترويج لمقولة «التاريخ يصنعه الأقوياء».. وبقدر مغامرة العقل على صناعة الفكر الماضوي، كان المبتكرون من العلماء يحققون النتائج العلمية لخير البشرية جمعاء.. وإذاً ما قيمة ثنائية «التراث والحداثة» أمام المنجز العلمي «الأخلاقي» لإنسان القارات الست، الذي صنع «المصل» من بذرة في «الأرض» دون سابقة «تشريعية» من شأنها تمنع الابتكار وتحد من النشاط العلمي البشري وإنجازه، الأمر الذي يجعل من العلوم التطبيقية متجاوزة للعلوم الإنسانية، وداحضة لأي نتائج فلسفية تقلل من قيمة عطاء العلماء، حيثما كانوا، وتجعل العالم متفرقاً بين مجتمعات متقدمة ومجتمعاتٍ أخرى متخلفة، وتجعلنا بالتالي أمة قاطنة برؤية «العالم الثالث» الذي استباحنا برغم التراث العلمي العربي والإسلامي العظيم الذي كان في صميم المعرفة الإنسانية وإنجازها العلمي عبر التاريخ، وقد كان للعلماء العرب الفضل الكبير في وضع البذور الأولى لمعظم العلوم التي استفاد منها العالم وكانت الأساس للنهضة الأوروبية والمنهاج العلمي لأبحاث الغرب وتطوره.. والتاريخ العربي والإسلامي حافل بالشواهد، منهم «الخوارزمي» أبرز علماء الفلك ومن أوائل علماء الرياضيات، وهو الذي برع في علم الجغرافيا وأنشأ علم الجبر وقدم الكثير من النظريات الهامة في علم الرياضيات، وهو الذي أضاف مفهوم «الصفر» في الرياضيات، كما وضع المواقع العشرية في الأعداد.. وكذلك الفيلسوف «الكندي» الذي يعرف عند الغرب بـ«Alkindus» واشتهر بكونه من أبرز العلماء العرب في الرياضيات، وهو الذي تميز في علم الفلك والفلسفة والبصريات والطب والكيمياء والموسيقى.. و«جابر بن حيان» الذي برع في علوم الكيمياء والفلك والهندسة وعلم المعادن والفلسفة والطب والصيدلة.. و«ابن سينا» العالم الشهير في مجال العلوم الطبيعية والرياضيات والذي يعد من أكثر الشخصيات المؤثرة في مجال الطب في العالم الإسلامي وأوروبا في القرون الوسطى.. إضافة إلى «الرازي» والفيزيائي الأول «ابن الهيثم» وسواهما من العلماء العرب الأفذاذ في شتى صنوف العلوم التطبيقية والإنسانية مجال البحث المستمر عند الغرب، وهو ذاته الاجتهاد العربي الحديث الذي حاز به العالم المصري «أحمد زويل» جائزة نوبل في «كيمياء الفيمتو» باختراعه «الميكروسكوب» الذي يصور أشعة الليزر في زمن مقداره «فمتوثانية» بما يمكن رؤية الجزيئات أثناء التفاعلات الكيميائية، وبالتالي اعتبر «زويل» رائد علم كيمياء الفيمتو، بل ولقب عالمياً بـ«أبي كيمياء الفيمتو».. فما سؤال «التراث» في العِلم، وما حدود الممكن الذي يجعل من الفكر العربي أسير تحدياتٍ سياسية خارج قيمة الوجود البشري المشترك بين أبناء -هذه الأرض- الذين عانوا الضياع لقرونٍ حتى تمكنوا من الحياة عليها، واليوم يعانون الفرقة ويخسرون حياتهم جراء الحروب الأيديولوجية والكوارث غير الطبيعية!