Atwasat

أرسان الروح داخل المكان

سالم العوكلي الثلاثاء 05 مارس 2024, 04:14 مساء
سالم العوكلي

حين كان يبعث لي الصديق نجيب الحصادي الكتب التي يترجمها أو يؤلفها قبل نشرها ونلتقي بعدها، كنت أردد له: الكتاب الأهم ما زال يا نجيب. وألح عليه أن يكتب سيرته. يبتسم ابتسامته المعهودة مع علامات خجل تظهر على وجهه ويقول ما مفاده أن حياته ليس فيها ما يستحق الكتابة أو الذكر، وقاسيًا على نفسه كعادته، سيتساءل بعدما فرغ من كتابة هذه السيرة: «أهذا كل ما جئت إلى العالم من أجله؟» وما يلبث أن يعالج سؤالًا بأكثر قسوة: «وما لبثت حتى أجبتُ، والحسرة تملأ قلبي: لكم يبدو ما قمت به صغيرًا وضئيلًا». غير أن هذه القسوة أو ما يسميه في سياق آخر «الحياء المعرفي» ما جعل من نجيب أحد أهم المشاريع الفلسفية المثابرة التي كان هاجسها توطين منهج الريبة في الثقافة واللغة العربية، مثلما سعى طه حسين يومًا لتوطين منهج الشك.

يقول الشاعر النمساوي، راينر ماريا ريلكه، في رسالة بعثها إلى صديق يشكو من فقر حياته وعجزه عن كتابة شيء مهم بوحي منها: «لا شيء فقير أمام المبدع، كما ليس ثمة أماكن فقيرة، لا دلالة لها، فحتى لو كنت في سجن يخنق جدرانه كل ضجيج العالم، أفلا تبقى لك دائمًا طفولتك، هذه الثمينة، هذا الغنى الملكي، هذا الكنز من الذكريات. أدر إليها تفكيرك..». ونجيب الذي عاش طفولته ومراهقته في الستينيات في حاضرة ضاجة بالحياة وعشق الفنون والضحك لم يكن يومه فقيرًا، لكن من سجاياه أنه يخجل من الحديث عن نفسه، ومن استخدام ضمير (أنا) أو ما ينوب عنه من ضمائر مستترة، والسيرة أساسها هذا الضمير، لكنها الأنا الشاهدة، المتأملة، المتفكرة، والناقدة، التي تجلت متنازعَة بين الانحياز في كل ما يخص الروح والحياد المرتاب ما وسعها ذلك فيما يخص العقل.

بعد فترة بعث لي نجيب فصلًا طويلًا تحت عنوان «درنة الستينيات» وحقيقة انبهرت بالحبكة السردية، وبالاستدعاء الرشيق لكثير من اليوميات المرحة والملهمة التي أعرفها لأول مرة رغم أني كنت أعتقد بحكم قربي من نجيب أنه حكى لي كل شيء، لكن التشافه شيء والتدوين شيء آخر. فالكتابة ليست «أسلوبًا في الاكتشاف» فقط كما يفكر في سيرته: «تدريجيًا عرفت أن الأفكار حين تكون حبيسة الذهن، لا يتضح عوارها كما يتضح حين تتلطخ بالمداد. ذلك أن قدرات الذهن على تتبُّع النقلات الاستدلالية التي يقوم بها تظل محدودة، لكن الأفكار تصبح أسهل على النقد حين تتجسد في ألفاظ مدوَّنة. ويشهد على هذا أن النقلات الاستدلالية غالبًا ما تكون ملتبسة وغائمة في الذهن، وحين يشرع المرء في التعبير عنها كتابة، تتناسل وتتكاثر الأفكار». لكن الكتابة أيضًا آليةٌ للتذكر، ولإدرار الذاكرة.

درنة الستينيات الذي جعله في السيرة فصلين (سنوات الصغر، ورسن الزاهرة) يشكلان سردًا حميميًا قريبًا من كل من يقرأه، بل الكثيرون سيجدون أنفسهم فيه، لكن نقلة نجيب فيما بعد إلى العقد التالي والانتقال إلى الدراسة في جامعة بنغازي، ثم الإيفاد إلى الولايات المتحدة، ستجعله يبتعد عن كل هذا المحيط الحميمي الزاخر بالمفارقات والضحك والفن والمقالب إلى رزانة أو رصانة، إن لم أقل، تجهم الحياة الأكاديمية بعيدًا عن المكان الذي لم يتوقع يومًا إمكانية التنفس خارجه.

وهي نقلة ستنعكس في الكتابة لأنها أصبحت سيرة حياة، والحياة أخذت منحى آخر منذ أن سخّر كل ما تبقى من عمره للفلسفة مع اختلاسه أوقات لهو ومرح قليلة كي يحافظ على التوازن الذي هو جزء من رؤيته وأطروحته المناغمة بين العقل والروح.

جرثومة الالتفات إلى السيرة تسللت داخل نجيب وأصبحت شاغله الشاغل، وأُدركُ تمامًا ماذا يعني الشاغل لنجيب: العمل المستمر عليها والسرحان فيها والسعي لأعلى درجة من الإتقان أو القرب من الكمال، وإذا لم ينجح هذا فمتأكد أنها لن ترى النور، ولأن العارف مرتاب في طبعه من كل ما ينجزه، كان نجيب دائمًا يلوذ بالأصدقاء للحوار ولمعرفة وقع ما يكتبه. بعث لي نجيب مسودة السيرة شبه كاملة بتاريخ 29 سبتمبر 2022، تحت مسمى (فيض الخاطر)، وجرى حوار حول التسمية بما تعنيه العناوين من أهمية له حتى في الكتب المترجمة، إلى أن صدرت في كتاب أنيق باسم «أرسان الروح». ولتذكُّر بعض الحوارات، عدت إلى محادثاتنا المؤرشفة في الماسنجر، فعثرت على محادثة بتاريخ 6 أكتوبر 2022، أذكر فيها انطباعي الأول الذي يقول: «والله ممتعة جدًا السيرة. سرد بهيج ينضح فيها الصدق من كل كلمة.

وأجمل ما فيها العاطفة الحميمة التي تسيطر على سرد الوقائع الحياتية والعلاقات الحميمة، والروح العلمية الرصينة التي تنهض بمجرد الحديث عن الاختصاص والمهنة، مع وشائج روحية تربط بينها، فكثير من وقائع الحياة نفعت العلم والمهنة كما أن العقل الذي شكّلته الفلسفة نفع في استمرار الحياة وتحسين نوعيتها.

ثمة ملاحظة مهمة في السيرة: منذ لقائك بالبروفيسور في جامعة وينكانسون الذي جعلك تبحر في أعماق البحث العلمي الفلسفي، أصبح سردك للسيرة في قلب الفلسفة وما قبله كان وقائع حياة. بمعنى أنك تحولت إلى كائن تشكل الفلسفة سيرة حياته وكل ما يرد من وقائع ومواقف حياتية على هامشها، وهذا طبيعي حين تحسب الوقت الذي تقضيه من عمرك في هذه المرحلة مع الفلسفة والشغل فيها. فحين تسمي فصلًا من حياتك التفكير الناقد فهذا ما شغل يوميات حياتك طيلة هذه المرحلة، أو حين تتحدث عن شغل مثل تجربة الإمارات أو الاستطلاع فهذا أيضًا شكّل سيرة حياة تقضي معظم ساعات يومك معهًا. قد يهم هذا التوضيح في المقدمة حين يجد القارئ النقلة في السيرة من أحاديث حياتية حميمية وطرائف ووقائع إلى حديث عن عراكك مع الفلسفة التي أصبحت متن السيرة. ولهذا السبب اقترحت عنوانًا جانبيًا: (صور من سيرة روح وعقل) وهما متداخلان بشكل أو آخر في سيرتك ومتناغمان مع كتابك المبكر «ليس بالعقل وحده».

ولأن صديقنا الشاعر عاشور الطويبي متطلب فيما يخص مشاريع الأصدقاء الذين يراهن عليهم، يخبرني نجيب في رسالة بالتاريخ نفسه تقول: «اتصل بي عاشور الطويبي كي يطلب مني كتابة سيرتي فقلت له إنني كتبتها في شهر كي أتخلص منها وأعطيته نبذة عنها. قال لي ليس هذا ما يتصوره. يريد نجيب الفيلسوف والأديب الذي يحكي عن غناوة علم ويستطرد في الحديث عنها ويريد عملًا فلسفيًا يُقرأ بعد قرون وليس سيرة تقليدية. قلت له أنت ترغب في صورة طويبية طوباوية لنجيب وأنا توقفت تقريبًا عن قراءة الأدب ومشاغلي البحثية لا تنتهي. قال لي ابعثها، قلت سأفعل لكني ما زلت أشتغل عليها كل يوم وسأنتظر رد سالم وهو حكم بيننا فوافق. سعيد جدًا أنها عجباتك لأني كنت خايف نكون مبلد بلكل. أضفت فصلًا اسمه أثر الفراشة جمعت فيه الوقائع العابرة التي غيرت مسار حياتي. وسأستمر في العودة إليها وأصبر عليها حتى تنضج».

يقول نجيب في رسالة أخرى عن النقلة التي تحدثتُ عنها في ملاحظتي: «ما فطنتش للنقلة لكن سوف أشير لها في المقدمة» وأكتبُ له بدوري: «نقلة مهمة وطبيعية جدًا تتناغم مع نقلة مفصلية في الحياة... من الحديث عن الأب والأم والإخوة والأصدقاء، الزروق وعاشور وفتحي.... إلخ إلى الحديث عن أساتذة الفلسفة وإيزايا برلين ووبوبر... إلخ .

غير أن التنشئة الأولى موجود أثرها في قلب الشغل الفلسفي والمهني (الانضباط مثلًا وروح الفكاهة وحس التمرد المراقّب والمزج بين العقل والعاطفة... إلخ) هذا أيضًا ما وجدته في سيرة إدوارد سعيد خارج المكان وتأثير نشأته ووالده وأمه واسمه وبيئته الأولى في بقية حياته الفكرية، والفارق أن إدوارد كان خارج المكان وأنت داخل المكان جدًا».

ختم نجيب الحوار برسالة تقول: «نلتقي في الكلاسيكو عن أحمد». لم يكن نجيب أكاديميًا متجهمًا، أو بثقل روح من انغمسوا في الفلسفة وتعالوا على العاطفة، أو كما يصف أستاذه عبد الرحمن بدوي، ففضلًا عن كل ما ذكرت، كان لاعب كرة قدم منتميًا لنادي الأفريقي، ومشجعًا عتيقًا لنادي ريال مدريد، وكنا غالبًا نتفق على أن نحضر مباراة الكلاسيكو (ريال مدريد وبرشلونة) في أعلى قمة في الجبل الأخضر عند الصديق أحمد يوسف عقيلة، مبتعدين في هذا الوقت عن كل ما يمت لقلق الأفكار بصلة، ومستعينين بأريحية أحمد وبركته من أجل أن يفوز فريقنا، وهذا ما حدث في كل مباريات ريال التي حضرناها في كنف أحمد. ومثل هذا الشغف المتعدد أو ما سماه نجيب «أرسان الروح» ما جعله يغوص في بحر الفلسفة المتلاطم الأمواج بأمان.

ولعه بكرة القدم والموسيقى والشعر والصلاة والسهر مع الأصدقاء وحب الطبخ ولعب الورق، كان كله ضروريًا لكي يستعيد كل مرة حشد طاقته للركض في أرض الفلسفة الوعرة تأليفًا وبحثًا وترجمة وتطبيقًا على مسائل تخص الشأن العام، ورغم أنه يعتبر بعضها أرسانًا للروح إلا أني أعتبرها فسيفساء تكوين شخصية نجيب التي كل مرة يغلب فيها لون، وهذه المرونة ما جعلت أصدقاءه من كل هوىً وهواية.. أصدقاء مختلفين وأحيانًا متناقضين لا يمكن أن يتجمعوا إلا حوله.
أرسان الروح ليست سيرة ذاتية فقط لكنها سيرة ذهن ومكان وعقل من الممكن أن تُستلهم منها منطلقات جوهرية لخطة تنهض معرفيًا بأمة ووطن.