Atwasat

موشح المنفى

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 03 مارس 2024, 06:30 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

يهتم هذا المقال القصير بمناقشة وتحليل البيتين الأولين من موشح لسان الدين بن الخطيب* الشهير «جادك الغيث».
جادك الغيث إذا الغيث همى... يا زمان الوصل بالأندلس

هذا التركيب غريب، فالدعوة بجود الغيث هنا تنصرف إلى الزمان (زمان الوصل) وليس إلى المكان. وبما أنه لا يكون زمان إلا مقترناً بمكان، ينجر المكان لاحقاً نحو الزمان، فهو الأندلس. لكن المكان هنا عام وشاسع، والوصل مشروط بزمان ومكان محدودين. فنُخبر أن هذا المكان المحدد والمحدود هو «وادي الغضا»:

يا أهَيلَ الحي من وادي الغضا... وبقلبي مسكنٌ أنتم به

ورغم محدودية هذا المكان إلا أن الوجد بالمحبوب يجيش ويفيض عارماً في الاتجاهات جميعاً:
ضاق عن وجدي بكم رحب الفضا... لا أبالي شرقه من غربه

لأن حب هذا المحبوب- الحبيب «جال في النفْس مجال النفَس». وهذه الصورة، في نظري، من أبدع الصور الشعرية التي قرأتها في الشعر العربي أو المترجم، إن لم تكن أبدعها قاطبة.

ورغم أننا نعرف في تفاصيل الموشح أن الحبيبة قامت بقطع حبل الوصل:
فأعيدوا عهد أنس قد مضى... تعتقوا عبدكم من كربه

إلا أن البيتين اللذين يبدأ بهما الموشح (وهما مركز اهتمامنا هنا) لا يوحيان بذلك. فالبيت الثاني يقول:
لم يكن وصلك إلا حلماً في الكرى... أو خلسة المختلس
فهنا ثمة وصلان، أو نوعان من الوصل، وصل في الحلم، في انبثاقات الرغبات المكبوتة، في هجوع الوعي، ووصل هو «خلسة المختلس»، وإذن، انقطع الوصل جراء ظروف قاهرة وليس بفعل أحد الطرفين، لأن ثمة وصلاً مختلساً.

لكن، ما طبيعة هذا الاختلاس؟
هنا نغادر تحليل النص باعتباره بنية مغلقة، متسللين عبر ثغرة معلومة لدينا من حياة الشاعر. فنحن نعلم أن ابن الخطيب قد نفي إلى المغرب، وبالتالي فإن «خلسة المختلس» تستهدف زمان الوصل، إعادة وصل ماضيه بالحاضر، وتستهدف موطنه (= الأندلس). وعليه، نستنتج، مطمئنين، أن ابن الخطيب كان يزور الأندلس سراً. ولعل هذه الزيارات المختلسة لها أكثر من هدف، منها ما هو عاطفي، ومنها ما هو أسري، ومنها ما هو سياسي.
هذا يوصلنا إلى استنتاج مؤكد، هو أن ابن الخطيب ألف موشحه هذا أثناء منفاه في المغرب.

* لم نرَ داعياً لتقديم المقال بنبذة عن حياة لسان الدين بن الخطيب، فهي متاحة على شبكة المعلومات لمن أراد.