Atwasat

سفينة الربع الأخير

منصور بوشناف الخميس 29 فبراير 2024, 08:36 مساء
منصور بوشناف

لا تبدو طرابلس في مجموعة «مناكفات الربع الأخير» للكاتب جمعة بوكليب إلا مرآة للذات، يقف أمامها الكاتب مواجهاً لتجربته في الحياة، ليس في طرابلس فقط بل في كل الأمكنة، فرغم كل ما يظهر من تبرم وضيق ورغبة في المغادرة لطرابلس إلا أنه لا يغادرها ولا يرى المدن الأخرى إلا صورة أخرى «قد تكون نقيضاً لها» ولكنها ليست إلا حالة من الحالات الطرابلسية.

طرابلس في هذه المجموعة القصصية ليست مدينة خفية كمدن إيتالو كالفينو، بل هي الظاهرة المرئية الشديدة الحضور بنسيمها البحري وغبار صحرائها ورطوبتها المزعجة، بانكفائها على ذاتها وخصوصياتها كأضمومة ياسمين وبسرحانها الحضري وترهلها كصحراء تمتد وتمتد إلى ما شاء الله.

في «مدن لا مرئية» لإيتالو كالفينو تبدو المدن أطيافاً لا يدركها إلا القليلون. إنها أشبه بلعبة تحضير أرواح تلك المدن، وإن حضرت فهي أطياف شفافة أثيرية ولا تبقى طويلاً، إنها ومضة خاطفة، التماعة، شهقة، غمزة عاشقة، تلويحة يد تتلاشى في الزمان.

في «مناكفات الربع الأخير» تبدو طرابلس متربعة في الزمان، متربعة في القلب، منتشرة عبر الروح والمدن الأخرى، تبدو طرابلس هي «الذات» ذات الكاتب ووجدانه وتجربته الروحية الناجزة، لتبدو قصص هذه المجموعة جلسة ليس لتحضير الروح بل «حضرة» صوفية وجودية لطرد الأطياف والروح، إنها نصوص «كاثارسيس» للتطهر من أدران الروح، إنها معركة الاستقلال التي تخوضها ذات الكاتب عن المكان والزمان، إنها معركة الفطام الفاشلة على أية حال.

معركة الاستقلال والفطام، الاستقلال كخلاص لإنجاز مشروع الذات الوجودي والخاص وآلام الفطام التي يخوضها ويكتبها بوكليب عبر هذه المجموعة القصصية تبدو نتيجة لتجربة بوكليب في طرابلس وليبيا، حيث طرابلس الرحم والأم ومرابع الطفولة والصبا والأحلام والآمال وطرابلس أيضاً الجحيم والسجن وموت الأحلام والآمال. إن طرابلس الرحم والأم لا تلقي بجنينها «الكاتب» إلى الحياة، بل إلى السجن لتذوي الآمال والشباب ثم لتستقبله وقد شاخت وترهلت وذوت خدود بناتها وغدت أرضاً خراباً. لتقذف به إلى المنفى. ولكن ورغم كل هذا تظل طرابلس مرآة بوكليب التي يرى فيها ذاته والمدن والنساء والعالم. فحتى البر الإنجليزي لا يظهر إلا عبر المرآة الطرابلسية.

عبر ضمير السارد يتوحد السارد مع طرابلس فهو أنا وأنتِ وهو، لحظات الاقتراب «أنت» ولحظات الهروب «أنا» ولحظات اليأس «هو».

تتجهز السفن للمغادرة في أحلامه، ويقام مهرجان الرحيل، وتتوق الروح بعد اليأس إلى شاطئ آخر بعيداً عن الرحم والأم، بعيداً عن طرابلس وبحثاً عن «كوة للتنفس».

رحلة الاغتراب والمنفى التي تخوضها قصص هذه المجموعة القصصية تحيل مدن المنفى إلى مدن لا مرئية يبحر عبرها هذا «اليوليسس» الطرابلسي هرباً من طرابلس المرئية ودائمة الحضور حيثما حل.

المنفى والابتعاد أو الهروب من طرابلس تبدو في هذه القصص عذابات وآلام فطام شاقة، رحلة ابتعاد ومحاولة يائسة للنسيان، محاولة للولادة من جديد في بيئة أخرى ومدينة أخرى غير طرابلس التي لم تعد طرابلس التي شكلت وسكنت وجدان بوكليب طفولة وشباباً.

تجربة بوكليب في المنفى والتي ظلت «تيمة» أعماله السردية تمثل تجربة أجيال من الليبيين ألقت بهم ظروف الحياة في ليبيا فترة الثمانينيات من قمع ومصادرة وسجون ومشانق وتصحر ثقافي إلى شتات المنافي بحثاً عن وطن بديل.
لا يمكن للوطن أن يكون مشروعاً فردياً. إنه مشروع جماعة وأمة يحتوي أفراده ويساهمون في بنائه. لذا تبدو رحلة بطل هذه القصص «أوديسا» العودة الدائمة للبيت أو الوطن وإن رفعت القلوع لمغادرته.

إن سفينة بوكليب تظل تطوف على مرمى بصر من «طرابلس» طوال زمن الكوليرا بحثاً عن مرفأ موقت وليس بديل.