Atwasat

منطلقات «الجابري» الفكرية في نقد العقل العربي! (4-8)

سالم الهنداوي الخميس 29 فبراير 2024, 05:24 مساء
سالم الهنداوي

إن أقل ما توصف به الأنظمة العربية هو أنها أنظمة استبدادية بائسة تعيش على بؤس الناس وشقائهم، وأن النُخبة "السياسية" الانتهازية صانعة هذه الأنظمة وتلك المنضوية تحت لواء سيادتها، أسهمت بدورها في صناعة الحدود الدونية في حياة مجتمعاتها، بل وتمادت في تعميق حالة الجوع والرجاء عند طلب الحاجة، وهي قاعدة أساسية انتهجتها السُّلطة لاستمرار حُكم الاستبداد وإن تمظهرت في بعض المناسبات بسياسات إصلاح اقتصادي نوعي غايته ليس تحقيق الرفاه وإنما الدعاية المجانية التي عادة ما تسبق الانتخابات لمرحلة ثانية قابلة لسرقة أحلام الناس من جديد!

حتى هامش الحرية الذي تتمتّع به المجتمعات العربية، لم يعُد قادراً على التغيير، ذلك لأنها حرية مشروطة بضمانات دستورية تلزم الأفراد كما الجماعات بمحدودية الاعتصام والإضراب، وقانون الطوايء ومكافحة الشغب يمنع التظاهر والمطالبة بتحسين سعر رغيف الخبز، كما يمنع قطع الطرقات وحرق الإطارات وقفل أبواب البرلمان أو الاعتداء على النوّاب بالطماطم والبيض الفاسد، في حين تقبل به ثقافات أخرى في مجتمعات أخرى كفلت لها الدساتير ذلك، تلك الدساتير الوضعية التي احترمت الإنسان المواطن في "النموذج الأوروبي" وخسرناه نحن العرب في دساتيرنا التي صيغت لضمان حماية السلطة من حاجة المواطن!

في المرجعية التاريخية تحتل النخبة الفكرية مكانة مؤثرة في حياة الأفراد ووعيهم، وذلك لأنها، كما يرى "سارتر"، تنشغل - دون أن يكلّفها أحد بذلك- بهموم الناس ومستقبلهم..

والنخبة العربية، برأي الكاتب الفلسطيني "أحمد البرقاوي" لم تكن استثناء من هذه المهمّة، ولقد أدّى انشغالها بما يجب أن يكون، بالعالم المأمول، بالنقيض التاريخي لما هو واقع، إلى طرحها كل الأيديولوجيات الكبرى التي عرفها العرب المعاصرون، بل إن الفلاسفة والمفكرين الذين استعاروا من الغرب أفكار التقدُّم والحرية والحداثة والعلمانية والعِلم والمواطنة والديمقراطية، وحاولوا توطينها في بلاد ما قبل الحداثة، تكاد تغيب أفكارهم عن ساحات الصراع الراهن، ويجب ألّا تغيب.

في هذا السياق من خسارتنا لسؤال العقل العربي، ونقد الفكر العربي، وما خسرناه في العقود الأخيرة من نُخبٍ فكرية أضاءت مسيرة التنوير العربي وخبت مع تيارات الحداثة أمام انقلابات العقل السياسي التي أصابت مجتمعاتنا بالدونية، يشير "البرقاوي" إلى حقبة التنوير التي ظهرت في مصر وكانت الأساس التاريخي لنهضة عربية لم تكتمل بشروطها، فقد كانت مصر الحاضنة الأهم لاستيراد الأفكار وإعادة صياغتها وإلباسها لبوساً محلياً، فلا أحد يذكر الآن "زكي نجيب محمود" الذي بُحّ صوته وثُلمت ريشته وهو يدعو إلى العِلم وأخلاق العِلم وترك الأوهام واستخدام العقل، كما الحال مع "عبد الرحمن بدوي" صاحب العشرات من كُتب التراث وهو الذي اعتنق الوجودية ودعا إليها، ولكنّه لم يترك أثراً في وعي شباب مصر، وقس على ذلك.. وكذلك "الجابري" الذي قتل التراث بحثاً عن عقلانية نقدية توحِّد بين "ابن رشد والشاطبي وابن حزم" مات ولم يترك خلفه من يحمل “وهمه” التراثي، ككل التراثيين الذين راحوا ينبشون القبور بعد هزيمة يونيو، مستنجدين بها علّهم يجدون حلا للعلاقة بين الوعي القديم والوعي الجديد.

لقد حاول "ماركسيو" ذلك الزمان أن ينتسبوا إلى واقعهم عبر "الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد" وعبر “مركسة” ما لا “يمركس”.. كما لم تترك "البيروسترويكا" ماركسية العرب دون أن تقلل من شأنها إلى الحدِّ الذي صارت فيه غريبة عن الحقل الثقافي العربي، ولم يعُد "محمود أمين العالم وسمير أمين" شاغلين الناس، وشخصانية "الحبابي" بتأثير من الفيلسوف الفرنسي "مونيه"، والتي أرادها الحبابي إسلامية، لم تترك ندبة ما في الوعي العربي والغربي.. ومات "حسن صعب" صاحب "تحديث العقل العربي" وترك وراءه عقلاً عربياً شعبوياً يعود إلى "ابن تيمية" وتلامذته المعاصرين.

لا نبكي على عهد، والفارقة مانعة كما في رأي "أحمد البرقاوي" فالعراق الذي كان أكثر المستهلكين للكِتاب لا هَمّ له اليوم سوى عاشوراء ومداواة الآلاف من الذين يتعرّضون لتفجيرات الجسد.. ولبنان الذي كان واحة إنتاج الكِتاب والصحافة، يتحكّم به حزب أصولي باسم الممانعة، فما الذي جرى؟.. أين هي العلّة؟ هل العلّة في واقع عصي على التغيير أم في أفكار لا علاقة لها بواقع المنطقة أو تاريخها، أم تعود إلى الأمرين معاً.. وكيف نفهم الثورات الراهنة في ضوء هذه الأسئلة؟.. ويقول البرقاوي: تكمن المشكلة كما أعتقد في المكنسة التاريخية التي لم تستطع أن تتحرّر من الوسخ التاريخي نفسه، تعلُّقاً بالسلطة الرعناء، ولم تستطع أن تنجز مهمّة تنظيف الطريق أمام التاريخ لانتصار الأفكار وتحويلها إلى نمط حياة ونظرة إلى الوجود والإنسان، وأقصد بالمكنسة التاريخية الفئات الاجتماعية التي انتدبت نفسها لمهمّة التغيير الاجتماعي، فلقد كان تأسيس “الدولة الوطنية” في المستعمرات العربية حادثاً جديداً، وكانت حاجات الدولة الوليدة كي تصل إلى شكل الدولة المعاصرة كبيرة؛ حاجات اقتصادية وثقافية ومؤسساتية، والسلطة التي آلت إلى أرستقراطية مدينية وفلاحية أخذت الطابع الديمقراطي الغربي ودون تاريخ تحولات عميقة في المجتمع، سياسياً واقتصادياً، بل أخذت تعمل على إنجاز هذه التحوُّلات دون تاريخ، وكان هذا أهم عقبة تاريخية أمام التحوُّل الحداثوي وأمام مكنسة التاريخ، فبدلاً من أن تكون ثمرة تاريخ وتطوُّر المجتمع الرأسمالي ومهمّة برجوازية متكوِّنة، أرادت السلطة أن تنجز ما أنجزه تاريخ أوروبا، ولهذا كانت السُّلطة الوليدة، بوصفها مكنسة التاريخ، ذات ملامح من التاريخ الذي تسعى لكنسه.. أمّا الفئات الوسطى التي نمت بسرعة هائلة، والتي تحوّلت إلى بديل للأرستقراطية المدينية والقروية وبعض الفئات البرجوازية الوليدة، لم تنجز تحرُّرها الفكري الحداثوي، فحملت هي الأخرى نظرات المجتمع التقليدي إلى الحياة.

في الوقت الذي نشأت فيه السُّلطة الأرستقراطية، شبه البرجوازية المدينية والريفية ونجحت في تكوين الفئات الوسطى -قلب المجتمع- المتكوِّنة من المعلِّمين والأساتذة والمحامين والأطباء والمهندسين والموظفين والعسكر، وما شابه ذلك من مِهن، وساعدت على تكوُّن نخبة فكرية ذات نظرة إلى مستقبل حداثوي بكل الأفكار التي يعجُّ بها الغرب، وموت الفئات الوسطى ذاتها بعد استلام جزء منها للسلطة، وفي الوقت الذي أسَّست الأرستقراطية المصرية السورية والعراقية للحياة السياسية وتكوُّن الأحزاب، فإن الفئات الوسطى، التي يُفترض أنها تريد إنجاز ما عجزت عن إنجازه الأرستقراطية (المُسمّاة جدلاً برجوازية)، قد دمّرت الحياة السياسة، ودمّرت قدرة الأفكار على تشكيل الوعي الروحي الحداثوي والمعاصر، وذلك أنها، أي الفئات الوسطى ذات الأصل الطبقي الفلاحي، لم تحصل على تربية مدينية بالأصل، ولم تتشرّب إنجازات برجوازية ثورية بالمعنى التاريخي، ولهذا وجدت نفسها نقيضاً للأرستقراطية المدينية والريفية لا من موقع طبقي، بل من وعي شره باستلام السُّلطة، وعي معزّز بأيديولوجيا سرعان ما تحوّلت إلى خرق بالية تلهو بها الريح ويمر الإنسان من أمامها دون أن يلتفت إليها.

ومع تحوُّل الفئات الوسطى إلى عقبة أمام التحوُّل الحداثوي الديمقراطي يقول أحمد البرقاوي: "لم تعُد لأفكار النخبة وظيفة عملية واسعة وفاعلة، وتقوقعت في حقلٍ ضيقٍ من جماعات محدودة تتحاور في الندوات والغُرف المغلقة، دون أن ترى ما يجري تحت سطح الواقع، حيث عاد الناس ليحتموا بإرثهم التقليدي من تغوُّل سُلطة مغتربة عن الواقع المحلي والتاريخ العالمي.. ويرى "البرقاوي" أن الثورات الراهنة ستؤسِّس لصراع الأفكار مرة أخرى، وقد يستعيد المفكر العربي دوره الذي لعبه في عصر النهضة وما بين الحربيْن، غير أن دوراً كهذا مستحيل دون غربلة الأفكار من جهة وزعزعة اليقينيّات من جهة ثانية، وشجاعة في طرح الأقصى من جهة ثالثة، كما يرى أن ولادة "الأنا" أهم نتيجة من نتائج السيرورات التاريخية الحديثة، وبالتالي فإن الدعوة إلى انتصار الأنا والكفاح من أجل تحوِّلها إلى ذات، أي إلى الفعل، هي الآن مشروع الفلسفة إذا ما أريد لها أن تحقق ماهيتها في الواقع المعيش.

لقد طال بحث مفكرينا في سؤال الحاضر بإرث الماضي لاستشراف المستقبل، لكن العِلّة لم تكن في طرائق البحث ومدلولات النتائج، وإنما في الصدمة التي تعرّضت لها المجتمعات نتيجة الثورات السياسية الزائقة والمتغيّرات السيميولوجية التي طالت صميم المجتمعات في حاضرها وفي علاقاتها التاريخية مع تراثها وهُويّاتها الثقافية، وهي المقاصد الفكرية التي كانت جوهر البحث الطويل في "التراث والحداثة"، كما كانت خلاصة سؤال العقل العربي وقيمته الفكرية.