Atwasat

الخنوع عقيدةٌ والحنين إلى العصا

بوابة الوسط - القاهرة الثلاثاء 27 فبراير 2024, 06:37 مساء

لا تسأل الطغاة لماذا طغوا، بل اسأل العباد لماذا خنعوا. يقال إن هذه حكمة رومانية قديمة بقدم أولئك الأباطرة الرومان وحاشيتهم التي كانت تدرب الناس على الخنوع وعبادة الحاكم الذي روجت له السلطة الدينية أسطورة بأنه مبعوث من الإله أو نصف إله، من أجل أن يكون الخنوع في هذه الحالة نوعًا من الورع والطاعة المستحبة والشعائر الروحية، وهو تكتيك سياسي ما زالت تقوم به طوائف دينية عدة ومختلفة تعتبر لب الإيمان والتقرب إلى الله يكمن في طاعة الحاكم حتى وإن كان سفاحًا أو فاجرًا.

لكن هل الخنوع في هذه الحالة فطرة متوارثة جينية، أم ثقافة تشيع عبر التدريب والتلقين والتمرين فتتوارثها الأجيال وكأنها مورث جيني لا سيطرة عليه؟. وهذا التوارث يظهر جليًا في تصريحات شائعة بين ظهرانينا مفادها أن الليبيين «ما يمشوش إلا بالعصا». مع أنهم يعرفون جيدًا نتيجة حكم العصا الذي استمر أربعة عقود، ليس في ليبيا فقط، ولكن في كل النظم التي تسمي نفسها وطنية، وتتنطع بكونها تقدمية طليعية وممانعة إلخ، في العراق وسورية واليمن والسودان وليبيا وغيرها. وهم يعرفون في الوقت نفسه أنهم لم يقايضوا هذا الخنوع برفاه أو استقرار أو حتى شعور بالأمن، بل جمعوا الخنوع مع التعاسة والخوف مثل العبيد.

نحاول أن نستعيد من سيرة حياتنا متى بدأ تدريبنا على الخنوع للسلطات التي تكفلت بنا وبحياتنا منذ الولادة، وكيف تتوسع دائرة هذه السلطات ومعها يزداد حجم الخنوع، بداية من الأسرة العرشية أو المدرسة أو المعسكر، مرورًا بالحاكم المستبد، وصولًا إلى خنوع أمم برمتها لدولة قوية في هذا الكوكب مثل الولايات المتحدة، أو في هذا الإقليم مثل الكيان الصهيوني، ورغم التفاوت في درجة الخنوع إلا أن المقصود هو ترسيخ ذهنية الطاعة المطلقة لتصبح ثقافة شاملة من شأنها أن تطفيء أي وقدة للتمرد أو المغامرة أو حتى الحلم بالحرية في عمل إبداعي.

حين نعود إلى الطفولة وذكرياتها، نبدأ من العمر الذي بدأت فيه الذاكرة تحتفظ ببعض الوقائع والذكريات، وغالبًا السنة الرابعة أو الخامسة من العمر، ويقول البحث العلمي في هذا الشأن، إن الذكريات تبدأ مع نطق الكلمات وتركيب الحكاية، وحين نتعلم فهم الحكاية أو إنتاجها تبدأ الذاكرة في التخزين، وحين نتذكر كل ما سمعناه من حكايات أولى في الطفولة، ثم المناهج، نجد أنها غالبًا دروس ومواعظ تقتل فينا روح المغامرة والمبادرة والاحتجاج على الظلم.

بإيجاز، لا يخلو من الابتسار، يمكن القول إن النظم الاستبدادية، والتي غالبًا لا تملك شرعية للحكم، ابتكرت آلياتها المختلفة ومؤسساتها التربوية من أجل تدريب البشر (الرعية) على الخنوع التام، وقتْلِ روح المعارضة والتمرد فيهم، ومن أجل أن يكون هذا الخنوع وجدانيًا ومشحونًا بالرضا، عادة ما تتواطأ السلطة السياسية مع المؤسسة الدينية في مقايضة مصلحية تجعل رجال الدين يتمتعون بحظوة ووصاية اجتماعية مقابل منح الشرعية للحاكم، وإنتاج فتاوى تحرم التمرد على ظلمه. وهي المقايضة التي جعلت من بعض التيارات الدينية، إبان الربيع العربي، تصف الثورات المتمردة على الطغيان والظلم بأنها خطيئة بخروجها عن طاعة ولي الأمر، ما وضع الثوار في خانة أخلاقية حرجة عند الرأي العام، تجمع بين الخطيئة والغاية النبيلة، شبيهة بحكايات عُروة بن الورد أو روبن هود، الخارجين عن القانون من أجل قيم أسمى. غير أن جل أحلام ومطالب هذا الربيع لم تتحقق لعدة أسباب منها: الشعور بالذنب الذي رافق هذه الثورات، ولأنها وقفت عند المطالب ثم الانتظار، حيث ثقافة الخنوع المستوطِنة تخلق مواطنة متطلبة واتكالية بدل مواطنة فاعلة ومشاركة، ولأن من تصدروا المشهد ـ وهذا ما يحدث عادة عقب الثورات المنفعلة ـ مندمجون في ثقافة الخنوع، سواء ممارسين لها أو منصاعين، بحكم أنهم لا يرون الاستقرار إلا في هذه المعادلة التي تنطلق من فكرة أن بعض الشعوب لا يمكن أن تستقيم إلا بالعصا وبالديكتاتور. والمفارق أن هذا الخيار هو ما جربناه طيلة قرون وأفضى إلى نتائج كارثية في جميع الحقب (عادة ما تنتهي حقبة الاستبداد بحروب أهلية ومجاعات وبرامج أممية لإعادة التأهيل)، وهم يرفضون غيبًا الخيار الثاني (حلم الربيع العربي أو نخبته على الأقل) الذي لم يُجرَّب حتى الآن لدينا.

من جانب آخر، يتحول الخنوع مع الوقت إلى نوع من العصاب يجعل المتحرر منه ماهرًا في الخداع والتمويه وإخفاء سريرته، وعادة ما تكون ردات فعله عصابية، سواء في الحالات الفردية أو على مستوى الجموع في الثورات. في كتاب: إبستيمولوجيا الإدراك غير البصري. تحرير: بيرت بروغارد وديمتريا إلكترا غاتزيا. ترجمة: نجيب الحصادي. تحلل الباحثة جنيفر هذا الاختلال القيمي، وتجادل بأنه حتى المصابون بالعصاب «يكونون بمعنى ما في أحسن أحوالهم حين يقابلون شريكًا محتملا جديدًا. والمهرة في الخداع يرجح أن يكونوا مهرة في إخفاء سجاياهم الراذلة... وبعض السجايا الراذلة قد تظهر في البداية في شكل فضائل: المطالبة النرجسية بالأهلية وتعظيم الذات قد تبدو ثقة، وقد يبدو السلوك الاندفاعي وعدم حساب العواقب نوعًا من الشجاعة، فيما تبدو الرغبة في الهيمنة الاجتماعية في البداية نوعًا من القوّة أو الجلَد. وكل هذا يبدو مساعدًا على تأمين علاقات قصيرة الأجل، على الرّغم من أنه لا يرجح أن تكون فتنة هؤلاء الأفراد طويلة الأجل. ص 130». وهذا توصيف حاذق يمكن أن نلمسه جليًا في سلوك الأغلبية الذين خدعوا شعوب الربيع العربي في أول انتخابات بعد نهاية النظم السابقة. كما أن تلويث القيم والذكريات ظاهرة ملتصقة بالخنوع، وهذا ما يجعل حتى الآن الكثيرين يعتبرون ثورات الربيع العربي لا يمكن أن تكون إلا مؤامرة غربية، باعتبار عقيدة الخنوع تستبعد في اللاشعور أن يكون هذا التمرد فعلًا داخليًا بحتًا.

الخنوع مدمر، ولكن ردات الفعل على ما يصاحبه من شعور كامن بالعار أكثر تدميرًا، وعادة ما تكون الروايات أكثر تفحصًا لسيكولوجية الشخصيات الخانعة (كما في روايات كافكا مثلًا)، ومن حسن حظي أن أتيحت لي فرصة قراءة روايتين عربيتين، لصديق وصديقة، قبل نشرهما عالجتا بأسلوب محاكاة ذكي مثلَ هذه المآزق النفسية فيما يخص الأفراد وواقعهم الاجتماعي، وما يترتب عنها من فقدان التحكم والخروج عن الطور.

تكتب الروائية السورية عبير إسبر داغر في روايتها المهمة «ورثة الصمت»1 على لسان الراوي، وريث سلالات طويلة من الصمت والانصياع؛ الذي وصل إلى البلاد الجديدة بعد رحلة لجوء مريرة: «تطلعتُ في وجه ياميلي ولم أجد في نظراتها أثرًا لما حدث، بدأ صبري بالنفاد، وازداد نزقي، أردت افتعال شيء ما لأريها من أكون، وما الذي باستطاعتي فعله، أردتُ الصراخ، وتحطيم صورتي ورسمها من جديد علها تراني وتسمعني وتتذوقني إن خلقتني في مخيلتها من جديد، أحسست أنها وجه الله الذي لا يريد أن يتطلع إلي أنا العبد الخنوع، فأردت الثورة على الإله، فقد بدأتْ بتصديق أن حساسيتي ضَعفٌ، ومبادراتي لمساعدة الزملاء كانت انبطاحًا ولزوجة، وتفانيّ في القدوم باكرًا بدا جبنًا وانعدام مخيلة، فبدأت بافتعال الخلافات مع زملائي تحت سمعها وبصرها، صوتي العالي دون مبرر صدم الجميع، نزقي وتبرمي من أبسط المهام ترك الأسئلة على كل الوجوه، تأخري غير المبرر أصبح معتادًا، لم يصدق الزملاء ما الذي حصل لي، عاملوني برفق مرتبك خوفًا من انفجاراتي المتكررة».

في روايته (عار)2 التي يهديها «إلى الأجيال اللاحقة» يبدأ الشاعر والروائي الليبي جمعة الموفق الذي انطلقت روايته من فيديو يوثق حادثة اغتصاب مريرة لشاب مشتبه فيه من مدينته، باقتباس من الرواية نفسها «إن لم تستطع أن تغسل عارك؛ فاجعله يضيء». وحين يكون هذا العار نتيجة اغتصاب حقيقي بسبب اشتباه ضمن صراع ما يسمون أنفسهم ثوارًا، من ورثة الزمن الغابر الذين خرجوا من حقبة الاستبداد ملوثين ومهووسين بالتطهر من هذا الخنوع عبر ممارسته بغلوٍّ تجاه من يقع بين أيديهم: «كانت حفلة اغتصاب، أتذكر ما كنت عليه، مهانًا وذليلًا ومغتصبًا، منتهكًا بقوة الجماعة التي كانت إرادتها انتهاكي ومن ثم إلحاق العار بي، لقد بكيت وهذا كان بسبب ظهور أمي في تلك اللحظة، وهو تداع أفضت إليه صور أنتجتها المخيلة كوسيلة للمقاومة، من السخرية أن أتذكر أن أحدهم قال: ابكِ مثل فتاة. وكأن البكاء نقيصة!. وأنا إذ أستمر في الكتابة التي أسبغ عليها الألقاب؛ فهي مَرةً غنائية ومَرةً فجة، ومَرةً فضائحية، لأني أريد مثلكم أن يكون العالم جميلًا حقًا، وهي أي الكتابة في كل الأحوال كتابة ضدي أنا؛ قبل أن تكون ضد أي شخص آخر، هكذا سترونها وهو ما أشكك فيه منذ الآن، لأن عملًا كهذا خُلق ليكون وصمة على جبين البشرية، على جبين السماء بلا تجديف... المشقة ثم التضاؤل الذي كنت عليه جعلاني في وقت ما أشعر بالامتعاض نحو نفسي الهادئة، لم أكن في أي لحظة مقاوما بالمعنى المعروف، كنت منتهكًا يتضاءل في كل لحظة أمام نفسه، ولم أكن أملك أية وسيلة للدفاع. كنت أعزل. وقادتني خطوات جذلى بالحرية نحو مصيري».

1ـ صدرت رواية: ورثة الصمت، عن دار نوفل العام 2023 .
2ـ صدرت رواية: عار، العام 2021،عن منشورات جامعة المبدعين المغاربة.