Atwasat

سيرتك أنت أيضا سيرة ذاتية!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 27 فبراير 2024, 05:19 مساء
أحمد الفيتوري

تعددت كتاباتي في السيرة الذاتية كما تعدد من قبل اطلاعي عليها، حتى التبس عليّ الأمر بين السيرة الذاتية والسيرة الغيرية، هذا الالتباس تبين لي عند التأمل في المسألة أنه التباس موضوعي، فبين السيرتين وشائج وتشابك حتى الارتياب في أنهما «ذات منشطرة». فكاتب السيرة الذاتية كلما أبدع أمسى يكتب سيرته الذاتية، فالسؤال الذي يشب في وجه القاريء المشرئب نحو هذه الفرس الحرون الذات: لماذا اختار كاتب السيرة الذاتية سيرة فلان وليس علانا؟، كاتب السيرة الغيرية كما قارؤها، يبدو كمن وقع في كمين من نسج «العنكبوت»، ما نظن أنه واه لكنه مصيدة ليس من السهل الفكاك منها، فهو في كل حال كاتب أو قاريء عن "ذات".

قرأت كتابا هو سيرة غيرية، وهذا النوع من الكتابة يشغلني، والسيرة الغيرية عرفت باعتبارها الوجه الآخر للسيرة الذاتية، التي تنشغل بالذات ويكتبها المرء عن نفسه، فالسيرة الذاتية حسب فيلسوفها «فيليب لوجون»، ميثاق بين المرء ونفسه، أي وجوده الخاص. وقد كنت تناولت السيرة الغيرية وكتبت أن السيرة الغيرية مجهرية، في معرفة الذات البشرية الفاعلة، ما من خلالها، معرفة «ما حدث ما سيحدث»، فإنها إضافة مركزة تُعنى بدور الفرد، والفرد الفاعل في الجماعة، بل وحتى إنها إعادة إحياء لدوره، وبعثه في مهمة تخص المستقبل. بذا السيرة الغيرية، تسقط الضوء على ما يشبه «العقل الباطن»، ما هو مظلم في العادة. وكم يكون في ذلك تحفيز متعدد الأهداف والأغراض، لدراسة موضوعة ذات صلة بصاحب السيرة، ومن هذا فإن الذات في السيرة الغيرية تكون الموضوع، فيتاح لكاتبها ما لا يتاح في السيرة الذاتية، وللقاريء الدارس، والقاريء العابر.

ورغم ضرورة السيرة الغيرية، والاحتياج الملح إليها خاصة للباحثين والمؤرخين، فإنه حسب علمي، قلّ أن نجد سيرا غيرية باللغة العربية، فما نقرأ مترجمٌ، وهو أيضا ليس بالمتوسع فيه، كما حاصل مع الرواية، ومنها الرواية السيروية. ولقد كانت وما زالت السيرة الغيرية، تمثل نقصا بارزا في التأليف والكتابة العربية، وكم هو نقص فادح يكشف عنه ثراء الغرب في هذا النوع.

هذه الأفكار، وما حثني على التفكر مرة أخرى في المسألة، كتاب جدير بالقراءة، فالكاتب كما نلاحظ، بذل جهدا كبيرا لأجل الإلمام بالسيرة التي يكتب عنها، وثمة اعتناء مميز بالكتابة، فجاءت في أسلوب مترع وسلس وممتع. الكتاب: إدوارد سعيد – أماكن الفكر – تأليف تيموثي برنن- Timothy Brennan (ترجمة محمد عصفور- عالم المعرفة – 492 – مارس 2022م). وعلى الغلاف كلمة للدكتور رشيد الخالدي الأستاذ في جامعة كولومبيا: إن هذا الكتاب يقدم صورة إدوارد سعيد بكل أبعادها، ويكشف الزوايا العديدة لحياته وأعماله، التي يجهلها أقرب المقربين له» ، وإن تيموثي برنن "يعطينا فيه، صورة رثائية مرهفة، لشخصية من أبعد شخصيات القرن الماضي تأثيرا».

وقد كنت طالعت سيرة إدوارد سعيد الذاتية، التي كتبها ثم نشرها تحت اسم «خارج المكان» وترجمها فواز الطرابلسي، فلقيتني عند مطالعة السيرة الغيرية ما كتب تيموثي برنن، وكأنني كنت تحت هيمنة إدوارد سعيد، وأنني في الصورة مغمور في محيط ذات إدوارد سعيد، و"مع إدوارد سعيد – أماكن الفكر – تأليف تيموثي برنن «قد خرجت من هذا اليم، من الصورة، لأرى ما لم أر وأعرف ما لم أعرف، وهذا بالإضافة إلى كم المعلومات المضافة والمسهبة. ما جعلني أشعر كما لو أنني كنت أقرأ الشعر، عند قراءة «خارج المكان»، فيما أقرأ نثرا سرديا، عند قراءة «إدوارد سعيد – أماكن الفكر». وقد ذكر الناقد باتريك بارندر أن السيرة الذاتية «خارج المكان» هي أفضل سيرة قرأها في حياته.

إذا يبدو أن سيرة إدوارد سعيد، المبهرة سردا وصياغة، قد جرى صبغها وإيضاحها من خلال السيرة الغيرية التي كُتبت عنه، وكأن سعيد لم يستطع الإلمام بذاته المحتشدة بالفكر والفعل، وبالتالي فإن ما فعله تيموثي كتلميذ لإدوارد سعيد أن يُلم بما لم يُلم به أستاذه، وقد كان يمتلك المؤهلات لذلك، ويروم ما لم يرمه أستاذه.

هذه السيرة سفر لعوالم هذا المفكر، من ظل يدرك أهمية الدور الثقافي في النشاط العملي، ولن تضيء هذه السيرة، جوانب في شخصية إدوارد سعيد، ذكر المقربون منه أنهم لم يعرفوها قبل، بل أن بنية السيرة إضاءة لفكر ونهج إدوارد من تلميذ مجد، فكأنما السيرة في هذا أيضا سيرة التلميذ، ونهج الأستاذ معا، وبالتالي يتسنى لنا من خلالها، درس في العلاقة بين إدوارد سعيد وتلاميذه وبخاصة تيموثي برنن، من يفصح من خلال هذا الكتاب، عن مفكر سبر أغوار أطروحات إدوارد سعيد، ويقف وقفة الناقد لها وتعليل ذلك.

والسيرة التي يحتويها الكتاب المترجم، ما تربو على 400 صفحة، هي كما مختبر للمقارنة بين السيرة الذاتية والسيرة الغيرية، خاصة أنهما أثارا الصدى وحصلا على اهتمام بيّن، وأكثر من قراءة. وتبقى ملاحظة هامشية، في مسألة الترجمة العربية الأسلوب السلس، حيث إن محمد عصفور، أثقلها ببعض الاجتهادات غير الضرورية، ككتابة اسم إدْوَرْد هكذا، وليس كما هو معتاد: إدوارد، وما شابه ذلك، في حين أن القاعدة العربية تقول: خطأ معروف ولا صواب مهجور.

اطلاعك على كتاب، كثيرا ما يفتح عليك، مسائل قد تكون ذات صلة بموضوعة الكتاب أو غير ذلك، لكن الكتاب الجيد، ما يثير الأسئلة وليس الإجابات، خاصة القطعية منها. وحتى في العلم المحض، جودة الكتاب بما يطرحه من أسئلة، ومن ثم تصورات وبحث في المفاهيم، والأجناس الإبداعية، وما في حكم ذلك. وكما الكتاب الجيد يطرح أفكاره، فإن القراءة الجيدة تذهب من هذه الأطروحات إلى استنباط أفكار أخرى، وتستقريء المسكوت عنه في الكتاب. وثمة كتب تذهب بك بعيدا فتكون زاد المخيلة، لكن منها ما يمس قضية تشغلك ولو بشكل عابر، فالمسألة بالنسبة لك في صميم اهتمامك، وعندئذ خذ الكتاب بقوة، فقد أمسى كتابك.