Atwasat

جمعية الكفيف.. قائدها التاريخي ورجل المدينة

عبد الكافي المغربي الأربعاء 21 فبراير 2024, 06:27 مساء
عبد الكافي المغربي

ولد سنة 1936. بلغ مبلغ الصبا ولم تستول عليه كآبة العمى أو تؤرقه عزلة الطفل الكفيف. بيد أن القدر سارع فاعترض سعادة سنيه الأولى وهناء باله وطيب عيشه فحدث حادث وخسر القائد محمد علي سعود بصره.

لكن الرجل المتين، الذي يسجل وجوده المحمود بيننا تاريخ مدينة وتسرد حياته رواية عصور، قهر مصيبته وانطلق منها للمساهمة والإفادة بينما كانت آمال الاستقلال تينع بقيام المملكة. مسترشداً بتجربة القاهرة، وجد ابن البيت العريق بيئة مشجعة على النهوض بالعقل، فقفز بثورية فيما لم يكد ينقضي عقد على قيام دولة الاستقلال: تساءل لم لا يحق للمكفوفين الاستفادة من التعليم الحكومي؟ كانت الإجابة من البيئة الخصبة: لِمَ لا؟ وها هو الفتى الضرير والفتاة الكفيفة يفيدان من نظام ليبيا التعليمي الفريد إذ ذاك، ها هو الكفيف يلتمس في دولة معوزة طريقه إلى مسالك أخرى غير المجال الديني أو الصيرورة إلى الإهمال الاجتماعي في زاوية العدم الاقتصادي.

ومضت العقود، وجمعية الكفيف بنغازي تصنع اسمها وتاريخها، وفي الوقت نفسه تعيش تاريخ بنغازي. تخرج منها مكفوفون درسوا في فرنسا، آخرون في مصر، بعضهم سلك مسلكاً سياسياً ندم عليه، والآخر اختار الاستنارة العقلية سبيلاً فترهبن ثقافياً وكرس حياته لحلم اليوتوبيا البعيد. حين تركتني والدتي في روضة جمعية الكفيف سنة 1998، وأخذت أعول على انسحابها من جزء من يومي لأول مرة، لم أكن أتخيل أني سأعيش في هذه الجمعية ذكريات أليمة وسعيدة، مبشرة ومفعمة بالأمل، محبطة وعازمة في الوقت نفسه. عندما انتشلتني والدتي من أول شعور باليأس في حياتي ظهر ذلك اليوم الأول، التقيت بالراحل المحطم حامد يونس، المغني الموهوب، ضحية الإهمال ومظالم الليبيين. سألته أمي فيما كنت أنكمش على نفسي في السيارة منقذي، شن تحب يا حامد، أجابها طالب الصف الأول ابن السادسة الذي يعيش في القسم الداخلي بعيداً عن أمه: انحب الرز المحبب. وكثيراً ما أوصت حني «فنارة» أمي بأن تعد له الأرز المحبب، ولكن والدتي لم تفعل رغم عزم نيتها على ذلك. ذلك فحش النسيان، وسيئة حب الأطفال، أنانية الإنسان الأولى التي لا يبرؤ منها إلا من حُرِم متعة الأبوة، ذلك الذي نفض يديه من جناية إنجاب طفل.

بينما كنت أتقدم في الصفوف كان اسم محمد سعود يمر على خاطري كأني به لَقائد مهيب، أو باشا تاريخي عظيم، شخصية رفيعة مبهمة. فقد كان الطاغية مدير المدرسة يكفي ليبث في قلب كل تلميذ الرعب فقط لدى سماع صوته. لم أكن أعرف أين يقيم «الأخ الأكبر» هل يملك بيتاً في ناحية نائية من أرض المؤسسة المترامية؟ لم أكن أدري أين يقع مكتبه. خُيِّل لي أن الوصول إليه يمر عبر قنوات تراتبية تبدأ بمدير المدرسة صعب المراس، مروراً بالراحل فرج عثمان وفرج التركاوي، ولا مجال لطفل في الثامنة ليلتقي بهذه القامات اللامعة التي يحيطها الغموض. هذا ما كان أ.محمد سعود في خيالي. وتبدد الغموض الذي أحطت به سعود ودائرته عندما كرمني في إحدى الاحتفاليات.

لم يكن رئيس مدير المدرسة الجبار رجلاً صلباً قاسياً كمرؤوسيه أو غامضاً متحفظاً، بل كان سلِساً لم أتفرس فيه رصانة المدير وعزيمة القائد، فقد طغى على انطباع الطفل الأول حنانه. عرفت في العام 2003 أين يقع مكتب الأخ الأكبر، وفي نهاية شتاء تلك السنة الدراسية بينما كنت أتمشى مع الصحب على دأبنا نحن المكفوفين في وقت الاستراحة استوقفنا الخويلدي الحميدي محاطاً بحشد من الجنود المنتفخين بالكاكي، وقال لي: «أنت شاطر». الأخ الأكبر لم يسأم على تصرم العقود من متابعة تلاميذ مدرسته، فمشروعه الأول قبل أن يتضخم ويتفرع ويغدو استثمارياً وتشغيلياً، تعليمي بالدرجة الأولى.

وفي 2006، انتصب جنود على سور المؤسسة المقابل للقنصلية الإيطالية في أحداث 17 فبراير، وكنا قد شاغبنا فألفنا إلى الجنود، وأخذنا نستأنس بهم في عليائهم فوق السور. وانتقم منا المدير شر انتقام، لعبث الأطفال في الواقع الأسود. غادرت المؤسسة في 2008 لتجربة الدمج والانفتاح على المجتمع، خرجت منها، وبقي سعود، يتابع التعليم، يهيء فرصاً بديلة لمن أخفقوا، يرعى أطفال القسم الداخلي فإذا هو يوفر لهم إقامة مريحة، وطعاماً غنياً، ولباساً دافئاً. يوفر الحافلات الخاصة بالجمعية لتقل الطلبة والعاملين والمدرسين داخل بنغازي، ولم يتطرق الفساد قط إلى المؤسسة طيلة عهد إدارته، وما يفيض كان ينصرف لأجهزة إلكترونية ولمعمل الحاسوب. بل إن إدارته الرشيدة ابتاعت حيوانات محنطة لفائدة طلبة العلوم، برغم أن مناهج الدولة التعليمية في أواخر التسعينيات كانت قد بلغت مبلغاً بعيداً في إهمال الجوانب العملية ورغم أن تلك الغرفة تحولت إلى حجرة عقاب موحشة على يد مدير المدرسة الجبار عوضا عن أن تكون متحف علم حياة.

ولم يكن سيدنا المفضال يستنكف أن يسمع لآراء الشبيبة رغم تقدم نضجه وسعة خبرته، فوجدت شكواي منه من أصغى في صيف 2012 فوافقني أن الرياضة العقلية ينبغي ألا تمتنع عن المكفوفين، وأنه لا ينبغي تشجيع الإعفاء من دراسة الرياضيات، وضربت له مثل مؤسسة لبنانية في تسهيلها لدراسة كل المواد للطلبة المكفوفين، فرتب نفقة وتذاكر لاثنين من موظفيه فانتقلا إلى بيروت ولكنهما لم ينقلا التجربة بنجاح.

وآخر أعماله في أعالي شيخوخته إعادة ترميم المؤسسة بسيدي حسين والتي كانت قد نهبت ونالها دمار واسع في حرب بنغازي 2014-2017. لم تثبط الحرب من صدق عزم الرجل وثبات خطوه، فإذا به شيخ متقدم يعود على بدء: يعيد تأسيس الجمعية من الصفر.

أبصرت طفولته ويلات الحرب العالمية الثانية وتداول الدول على بنغازي، أصغت أذناه المراهقتان لخطاب الملك الراحل إدريس الأول يعلن استقلال بلادنا، خبر تقلبات العامة وأدرك أن جانبهم لا يؤمن، أبصر بعقله الميل الجارف إلى عنفوان الانتفاخ الفاشي الكذاب، استمر في خدمة مشروعه وحُلمه الحي في ظل حكم الانقلاب، أصبح على التفاتة سيف القذافي وتشجيعه لسياسة الإغواء بالبحبوحة، أمسى على الثورة وانفراط عقد الأمة، ويظل محمد علي سعود كتاباً مفتوحاً يسرد لك ما يسهو عنه المؤرخ، لولا أن جمعيته لا تسمح له بالوقت للحديث فيما غبرت من أيام.