Atwasat

(زيارة ونيارة)

جمعة بوكليب الأربعاء 21 فبراير 2024, 04:32 مساء
جمعة بوكليب

حين تضيق بالمرء مساحة الزمن الحاضر، ويجد نفسه تدريجيًا محاصرًا، حدّ الاختناق، بالأزمات على المستويات كافة، وليس بإمكانه فعل شيء، في بلاد كان من الممكن أن تكون ذات يوم وطنًا له، ومن بعده لأبنائه، فإنه يضطر لأن يبحث لنفسه عن ملجأ آمن موقت، يكون بمثابة كوّة للتنفس، يخفف به عن نفسه ما أثقله به الزمن الحاضر من أحمال.

حين يحدث ذلك لإمريء ما، صادف وأن تواجد زائرًا في مدينة عتيقة، مثل طرابلس الغرب، يجد أن الملجأ المأمول، لا يكون بالتطلع أو بالهروب إلى إمكانات واحتمالات المستقبل المنظور أو حتى البعيد. لأن عتمة الحاضر وتقلباته تقف عائقًا يحول بينه وبين تحقيق ذلك. ويجد أنّه من الأنسب له الالتفات إلى الخلف، بالعودة إلى إعادة قراءة شواهد الماضي.

المستقبل يتموضع في عالم الغيب، ومن الصعوبة بمكان، إن لم يكن من المستحيل قراءته، أو البدء في محاولة بناء جسر يقود نحوه، والتكهن باحتمالاته، وبهدف طمأنة نفس لوّامه. في حين أن العودة إلى إعادة قراءة شواهد الماضي في متناول اليد، وتكون إما بالانغماس في قراءة كتب التاريخ ذات الصلة، أو عبر القيام بزيارة إلى ما بقي في المدينة القديمة من شواهد معمارية، ومحاولة بدء حوار مع ما تبقى صامدًا منها يقاوم الزمن والعفن.

أحيانًا، يكون من المفيد، عقليًا ونفسيًا، تعمّد إدارة الظهر للحاضر موقتًا، على أمل استعادة توازن الروح، ومحاولة عقلنة وضعية «اللامعقول» السائدة، من خلال مقارنتها بأشباهها من الحقب المظلمة، التي عاشتها المدينة تاريخيًا، وتمكنت بوسائلها من مقاومتها وهزيمتها. في تلك اللحظات تحديدًا، ربما تكون العودة إلى إعادة قراءة شواهد الماضي فرصة لإعادة صياغة أسئلة الذات في علاقتها بالمدينة وبالوطن الحلم الذي تلاشى، وبالعالم في أشد منعطفاته خطورة، وعلى نحو مختلف، يأخذ في اعتباره تعقيدات وأزمات الزمن الحاضر، ولكن ليس بهدف رفضه وإلغائه أو الهروب منه، بمحاولة إيقاف عقارب الساعة قسرًا، وجرّ الزمن للوراء، على النحو الذي عرفناه ولمسناه وقاسيناه، في رؤية الظلاميين.

قد يحدث كل ذلك، فجأة، خلال فترة زمنية قصيرة. ويكون بتعمد حفر فجوة في جدار الحاضر، والتسلل منها إلى شواهد الماضي، وإعادة القراءة على ضوء عقل مختلف، وبرؤية مختلفة.
وبالطبع، قد يكون ذلك القرار صعب التحقق نظرًا لافتقاد الخبرة اللازمة، واضطراب النفس وتوترها. لكنّه قد يسهل ويصير ممكنًا، إذا امتدت أيادٍ صديقة، مقترحة بود، القيام بنزهة تاريخية بين شواهد الماضي، في المدينة التي منحته الحياة ثم أنكرته.

الصديقة الكاتبة والباحثة أسماء مصطفى الأسطى، والمؤرخ الأستاذ سالم شلابي الخبير بمعمار وبتاريخ طرابلس القديمة، والباحثة الأستاذة سمية العروي، تكفلوا طوعًا ومشكورين، بأن يكونوا مرشدين. ولم يكن ممكنًا رفض دعوة على هذا المستوى.

في اليوم المقرر، وفي الساعة المحددة، التقينا قرب قوس ماركوس أوريليوس، ومعًا بدأنا رحلة لم يسبق لي القيام بها، في أزقة وبيوت مدينة، كنت، قبل ذلك، أدّعي معرفتها.

الشكر موصول إلى الصديقة أسماء مصطفى الأسطى، لأنها كانت أول من بادرني بالفكرة، وشجعتني على القيام بها. وحمدت الله أنني قبلت خوض المغامرة، وكانت، بحق وحقيق، واحدة من أمتع المغامرات التي عرفتني بشوارع وبأزقة وببيوت مدينة، ما زلت أحمل لها في قلبي مكانة خاصة بها.

تلك الرحلة/ المغامرة/ النزهة/ الرفقة/ جعلتني أتنفس تاريخ مدينتي، وأتخيل أنني أعيش حقبًا عديدة منه، من خلال ما تبقى صامدًا -وإن تهاوى أغلبه- من معمار، بقي شاهدًا على عمق علاقة طرابلس بالتاريخ. زرنا بيوتًا تهالكت، كانت يومًا ما معلمًا من معالم المدينة. وصار يسكنها مهاجرون أفارقة، يجهلون أنهم يعيشون في بيوت كانت يومًا قصورًا لباشوات ولقادة عسكريين ولسيدات، تركوا جميعهم بصماتهم واضحة الملامح في تاريخ مدينة، كانت، وقت الزيارة تلك، تستعد رسميًا، لأداء واجب الاحتفال بذكرى انتفاضة، حررتها في شهر فبراير من العام 2011 من الاستبداد، ويعاني حاليًا أهلها من ارتفاع أسعار السلع والمؤن الغذائية، وارتفاع سعر الدولار، والتهديد من قبل الحكومة برفع الدعم عن الوقود، وخلو خزائن المصارف من السيولة النقدية.

في خضم ما يفرضه الواقع من حقائق قاسية، للأسف الشديد، ينسى الناس أشياء كثيرة، ومن ضمنها حقائق عديدة، أهمّها، في رأيي، واحدة تقول: «اللي ما هزّه ريح البارح كيف يهزّه ريح اليوم؟».