Atwasat

«نِفاس» مجتمعي

صالح الحاراتي الأحد 18 فبراير 2024, 06:43 مساء
صالح الحاراتي

معلوم أن فترة «النفاس» هي الفترة التي تبدأ من لحظة انتهاء عملية الولادة وحتى عدة أسابيع بعدها، في هذه الفترة تعود أجهزة الجسم إلى وضعها ما قبل الحمل والولادة، وخلال هذه الفترة من الممكن أن تحدث تقلبات في الحالة المزاجية، وشعور بالتعب مع صعوبات في التعامل مع الجسم المتغير ومع الغير أيضاً، وهى فترة تحيطها الكثير من المخاطر وجب أخذ الاحتياط منها كي لا تذهب الحالة إلى ما لا تحمد عقباه.

ولادة نظام سياسي جديد تشبه ولادة طفل جديد.. وتتبعها فترة «النفاس» أيضاً؛ ولعل الأعراض تنعكس على كليهما حسب معطيات الفرد والمجتمع..

فالولادة تسبقها الرغبة وإرادة الحمل والإنجاب، والتغيير السياسي أيضاً تسبقه الإرادة والدوافع والأفكار الداعية للتغيير، وكما أن الولادة تعقبها مرحلة النفاس التي أشرنا إليها فكذلك التغيير السياسي يمر بمرحلة من «النفاس» حيث يعم المشهد بعض المخاطر والارتباك مما يستدعى ويحتاج إلى رعاية وعناية مثل نفاس ما بعد الولادة، حتى لا تأتي المضاعفات المرضية غير المحمودة، فالتغيير السياسي المجتمعي يحتاج إلى الحيطة والاحتياط من الحيود عن الهدف المنشود وحتى لا تطول مدة التعافى.

وإذا كانت فترة النفاس بعد الولادة تنطوي على المضاعفات الأكثر شيوعاً المتمثلة في .. نزف شديد أو حالات عدوى في الرحم أو حالات عدوى في المثانة والكُلى والثدي أو مشاكل مع الرضاعة الطبيعية وصولاً إلى ما يسمى «اكتئاب» ما بعد الولادة؛ فإن التغيير السياسي المجتمعي يحدث فيه شيء قريب من ذلك ولكن على نمط مختلف الصورة.. حيث نرى فى التغيير السياسي الكبير «الثورة» حدوث ما يسمى بـ«فوضى ما بعد الثورات» حيث تبرز الكثير من الظواهر المتوقعة مثل الانفلات الأمني وانتشارالفساد والصراع على المناصب والمال والحروب الأهلية، وما يتسبب عن كل ذلك من نزيف لمقدرات البلاد، وانعكاسه على الحالة المعيشية للمواطن الذى يتململ وينتقد ما آلت إليه الأوضاع، وقد يصل الحال إلى «الاكتئاب الجمعي» المتمثل في الحنين لنمط المعيشة السابق، تماماً كما يحدث في مرحلة اكتئاب ما بعد الولادة!.

وكما أن هناك من الأمور التي يجب تجنبها أثناء فترة النفاس ما بعد الولادة، كذلك عند التغيير السياسي يجب تجنب أشياء كثيرة لعل منها الانتباه إلى أولويات المرحلة مثل إنجاز الدستور والبعد عن خطاب الشعارات الفضفاضة والحلول المثالية والحذر من تسرب المتسلقين الذين يخربون المسار السياسي «الثورة المضادة» تماماً كما تتسرب الجراثيم الضارة التي تسمم وتهلك الجسم في فترة نفاس ما بعد الولادة.

ما نعيشه اليوم هو مرحلة من النفاس المجتمعي المرضي الذي جلب إلى واقعنا الفوضى التي أعقبت انهيار النظام الشمولي الذي كان قائماً، فتغيير رأس النظام لا يعني بناء نظام جديد بشكل فوري، لأن مآلات الأمور في أي مجتمع يحددها مخزونه الثقافي، فإذا كان الإرث السياسي لمجتمعنا لا يعرف يوماً معنى تداول السلطة ولا قبول الآخر والكل يدعي الصوابية المطلقة فحتماً ستحدث الفوضى، لأن معظم أفراد المجتمع سوف يلجأون للانحيازات البدائية، القبلية والجهوية والعرقية والمذهبية.. الخ، فما من دكتاتورية سقطت إلا وأعقبتها مرحلة مخاض عسير مليء بالفوضى وسوء الحال، المسألة متعلقة بدوافع وأسباب كثيرة، وسرعة التعافي من الفوضى وعدم التوازن يعود إلى الناس بوعيهم وإرادتهم .. أما العودة لحلم البطل المخلص فهو عودة لنقطة الصفر واجترار للماضي ودوران في نفس الحلقة المفرغة من الاستبداد.

وأخيراً تبقى ملاحظة مهمة وهي أن مرحلة النفاس المجتمعي تستدعي منا التعامل معها بشكل علمي بعيداً عن العواطف حتى لا تطول.. فالتعافي ممكن.. ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.