Atwasat

الوطن الذي يسكننا

منصور بوشناف الخميس 15 فبراير 2024, 10:27 مساء
منصور بوشناف

في «هذا الوطن الذي يسكننا» يقدم لنا الدكتور محمد المفتي قراءة مختلفة في الكيان والهوية عن غالبية ما قرأنا في التاريخ الليبي الحديث؛ حيث يتتبع العوامل الاجتماعية والثقافية التي ظلت ترسم وتعيد رسم الهوية الوطنية الجامعة عصرًا إثر عصر وترسخ حدود الكيان وتحولاته.
عبر مقاربة سوسيولوجية يجمع المفتي شذرات هوية وكيان ظلت تصارع اتساع الجغرافيا وتباعد أركانها لتنتصر رغم كل الإخفاقات وتنجح في تشكيل كيان وطني واحد، صاغ دولة وطنية وصاغته تلك الدولة ورسخته.

في الهوية يرى المفتي أنها ليست الإحساس بالانتماء إلى ثقافة ولغة بعينها، إلى وطن أو بقعة جغرافية، إلى دين يجمعها. إنها تتنوع وتتحول وتتغير عبر الزمن والظروف، ولكنها تظل تجمع دائمًا.

هذه الهوية وهذا الانتماء يأخذ، وحسب الظروف، أشكالًا إيجابية موحدة ترسخ السلم الاجتماعي والعلاقة الإيجابية مع الآخر وقد تكون عدوانية ومدمرة في أوقات أخرى والحالة الأخيرة تحدث عند طغيان عامل أو جزء من مكونات الهوية على الأجزاء الأخرى.

الهوية ثقافة حسب ما يقدم المفتي، مشاعر وأحاسيس وأفكار، فنون وآداب وتدين تسري وتنتشر لدى المنتمين لهذه الهوية وتوحدهم وترسخ كيانهم ككيان خاص بهم ولهم «وطن».

تشكل هذه الثقافة رموزًا وأيقونات جامعة، هذه الرموز والأيقونات قد تكون أشخاصًا ملهمين أو قادة أو شعائر وطقوسا أو أحداثًا تاريخية موحدة أو حتى لعبة أطفال أو زينة نساء. لذا يلتقط المفتي شخصية ملهمة وقرها الليبيون، بل اختصروا في أفعالها وأقوالها حكمتهم الاجتماعية والتاريخية، شخصية الشاعر «سيدي قنانه».

المفتي يرى أن أسطرة الليبيين لسيدي قنانه وتبجيله لم تكن لأغراض فنية أو شعرية، فقط، بل كانت لتأكيد هوية مشتركة جمعت الليبيين عبر اللغة المشتركة وصياغة القيم الجامعة لتسود.

إلى جانب سيدي قنانه يقدم المفتي الرمز الثاني أو الأيقونة الثانية الجامعة للهوية والموحدة للكيان وهي العاصمة «طرابلس» حيث تتشكل طرابلس وتنمو عبر تاريخ طويل من التحولات لتكون «نواة» الكيان وجامع أجزائه المتناثرة.

الزوايا الدينية السنوسية وزوايا الغرب الليبي، ثم مواجهة الغزو ورموزها وعلى رأسهم عمر المختار وتكوين دولة الاستقلال، كلها عوامل شكلت ورسخت هذه الهوية وهذا الكيان الواحد منذ الفترة القره مانلية وحتى الآن.

في فصل مهم من هذا الكتاب يعلن المفتي انقراض القبيلة رغم كل الضجيج الإعلامي وحتى السياسي عن دورها وأثرها ورغم محاولات الأنظمة السياسية المتعاقبة لإحيائها وإدخالها لحلبة الصراع السياسي. فحسب ما يرى المفتي إن كل ما يحدث بأسماء القبائل أو بشعارات قبلية ليس إلا ادعاءات لا يعمل أصحابها باسم قبائلهم، بل لمصالح وأجندات لا علاقة لتلك القبائل بها.

في هذا الكتاب المهم والمختلف يلج بنا محمد المفتي التاريخ الليبي لتحليل وفهم الهوية والكيان الليبيين عبر مقاربة سوسيولوجية وفقًا لفلسفة تاريخ اجتماعي تلتقط ما أفرزه وأنتجه المجتمع الليبي من رموز وأيقونات وما عاشه عبر تاريخه الطويل من صراعات وحروب وتشتت وتوحد ورقي وتخلف وغزو وحروب تحرير وتفاعل مع العالم وكيف تشكلت وتحولت هذه الهوية وكيف تشكل هذا الكيان وما عانى من أزمات، وظل رغم كل الظروف قادرًا على التغلب عليها والسير والنمو ككيان واحد بهوية جامعة.