Atwasat

«براويط» سوق المشير

جمعة بوكليب الأربعاء 14 فبراير 2024, 06:51 مساء
جمعة بوكليب

تتميز جدًا عن البراويط التي نراها في أسواق الخضرة وأسواق العتق والتركة، المستخدمة في البناء بمختلف أشكالها. لونها أزرق لافت للنظر، كزرقة البحر في طرابلس أيام الصيف، وهي تتجلى في أحلام المغتربين والمنفيين والمبعدين، حين يتذكرون مدينتهم.

تبدو للرائي جديدة، وحتى القديم منها في حالة جيدة جدًا. وإذا كان «العمو» وأمثاله - كما تقول كتب التاريخ، التي ظهرت بعد انتفاضة 17 نوفمبر 2011- كانوا يجولون ببراويط صدئة في أسواق الخضرة بحثًا عن كرية بدينار أو بدينارين، فإن قيادة براويط سوق المشير المشهور امتياز احتكره، بجدارة وثقة، إخوتنا من الشباب الأفارقة. وعلى عكس أصحاب البراويط في الأسواق الأخرى، هم ليسوا في حاجة إلى التجوال بها في السوق بحثًا عن زبون، بل تراهم جالسين فوقها، متكئين بظهورهم على جدار خلفي لمصرف ليييا المركزي، يدردشون ويدخنون، إلى أن يأتيهم رزقهم.

يُعرّف موقع «موسوعة ويكيبيديا» على الإنترنت البرويطة بأن «أصلها من الفرنسية Brouette اسم باللهجة العامية يطلق على عجلة اليد المعروفة، ذات العجلة الواحدة، بمقبضين طويلين. كانت تصنع من الخشب، فأصبحت من مختلف المعادن، واتخذت عدة أشكال، لكن أشهرها وأكثرها رواجًا هو الشكل السابق وصفه من الحديد».

لكن كيف وصل الاسم الفرنسي إلينا في ليبيا؟ الموسوعة للأسف لا تقدم إجابة. وخلال حديث لي مع الكاتب الصحفي الحسين المسوري، في نفس الموضوع، علمت منه أنهم في مدينته درنه يطلقون عليها اسمين: برويطة وكريولة (سرير).

أما سوق المشير بطرابلس فإنه ينطبق عليه حكم القاعدة اللغوية، التي صاغها منذ قرون مضت أهل الاختصاص في اللغة العربية، حيال الشيء المعروف بقولهم إن المعروف لا يُعرّف. وبالتالي، فإن تلك السوق ليست في حاجة إلى تعريف، وهذا يعني أنه ليست هناك مشكلة أيضًا في تخمين المهمة الخطرة الموكلة إلى براويطها.

ولمن لا يعرف، فإن تلك المهمة تتلخص في نقل أكياس حزم النقود بين محلات سوق المشير، والذي يعد حاليًا سوق البورصة في ليبيا. حيث تتحدد يوميًا بين جنباته، وفي دكاكينه الصغيرة وساحاته ومقاهيه، أسعار العملات الصعبة وأسعار الذهب والفضة والمعادن الثمينة في كل ليبيا.

الشكر موصول إلى صديقي الكاتب منصور أبوشناف، الذي لفت انتباهي إلى براويط سوق المشير. إذ خلال زيارتي الحالية، وبينما كنّا في طريقنا سيرًا على الأقدام إلى حفل توقيع كتب بمقر حوش محمود بي، مررنا من جهة سوق المشير. وأشار منصور إلى تلك البراويط، وقدم شرحًا بالمهام الموكلة إليها.

في اليوم التالي، لدى مروري بنفس المكان صدفة، شاهدت تلك البراويط وأصحابها في حالة عمل. أكياس بلاستيكية سوداء اللون، تشبه إلى حد بعيد أكياس القمامة، لكنها أكبر حجمًا وأكثر سُمكًا، وحقائب جلدية سوداء اللون كذلك، محمّلة بحزم أوراق البنكنوت في برويطة زرقاء، يقودها شاب أفريقي، ويرافقه مواطن ليبي أطول قامة وأكثر ضخامة منه، يبدو من ملامحه أنّه من موكل بحراسة الشحنة، وفي مهمة تحويل كمية مهولة منها من مكان إلى آخر.

المفارقة أن مليارات الجنيهات من العملة الليبية تدور بين مختلف المحال في تلك المساحة الصغيرة المعروفة من المدينة، الواقعة، على وجه الدقة والتحديد، خلف مصرف ليبيا المركزي، الذي يزعم صاحبه أن خزائنه تخلو من السيولة النقدية، هو وجميع المصارف التابعة للدولة والخاصة. هل انتبهتم إلى المفارقة؟

المليارات من الدنانير، تتحرك ذهابًا وإيابًا، على براويط حديدية، زرقاء اللون، والمصرف الذي يطبع تلك الأوراق النقدية ويصدرها ويوزعها على المصارف، يدّعي أنه لا يملك في خزائنه الضخمة سيولة نقدية. أمتار جد قليلة تفصل بين المكانين. ومن لا يصدق، ليس عليه سوى القيام بزيارة قصيرة إلى تلك البقعة المشهورة من العاصمة، التي تتموضع، بالتحديد، تحت أنف صاحب قلعة المصرف المركزي.

اللهم لا اعتراض على حُكمك. لكن لو كنت أنا من يتولى مقاليد أمور تلك القلعة التاريخية المالية، التي بناها الإيطاليون، لما ترددت في تقديم استقالتي. إذ ما جدوى أن تكون محافظًا لأكبر وأهم مصرف في ليبيا، وليس لديك في خزائنه سيولة نقدية تحلّ بها أزمة البلاد؟

اللهم لا اعتراض على ما قدرت. ولكن أليس من الأجدى والأجدر والأنفع والأفضل للبلاد وللعباد، أن يغلق المصرف أبوابه، أو تسلم مفاتيحه لمن هم حقيقة من يديرون السوق المالية والاقتصاد، أعني تجار العملة والذهب والمعادن الثمينة، الذين لم يذهبوا إلى كليات الاقتصاد في ليبيا وخارجها، ولم يعملوا في مصارف غربية كبرى معروفة، لكنهم يفهمونها بالخبرة، ويقرأونها وهي طائرة في الهواء؟.