Atwasat

جدل الصورة المفهوم

سالم العوكلي الثلاثاء 13 فبراير 2024, 05:12 مساء
سالم العوكلي

أستطيع في زمن أصبحت تهيمن عليه الصورة وما تنتجه من خطاب أن أستعيد علاقتي الأولى بها، والمقصود هنا الصورة الفوتوغرافية التي اكتسب معها التواصل البشري زخماً مضافاً، لدرجة أصبحت تشكل ما يسميه بورديو «مرآة نرجس» الجديدة.

أول صورة فوتوغرافية تفتحتْ عليها ومعها عيناي، أقرب للأيقونة، صورة الملك إدريس ملفعاً بجرده الأبيض، ومعرقية بيضاء تظهر حوافها الرقيقة تحت شاشية حمراء تظهر باللون الأسود في الصورة غير الملونة، كانت تضعها أمي على الوجه الداخلي لغطاء صندوقها المزخرف (السحارية) الذي تخزن فيه ما كان يعتبر في ذلك الوقت ممتلكات ثمينة، وحين كانت تفتح الصندوق تفوح منه رائحة طيبة، مزيج بين المسك والقرنفل وعبق الأردية التي كان يحضرها أبي من مصانع درنة في زياراته الموسمية.

كان إدريس ملكاً متوجاً يحكم دولة تحبو نحو، لكنه بالنسبة للبسطاء مثل أمي وأبي كان ما زال «سيدي إدريس طلاّق المحابيس» المتحدر من السنوسي الكبير ومن سلالة المرابطين الصالحين. يكتب عالم الأنثروبولوجيا الإنجليزي، إدوارد إيفانز بريتشارد: «لقد استمد السنوسي الكبير حرمته، وبالتالي قوته، من حقيقة أنه كان (امرابط). البدو على دراية بالقديسين ويجهلون الطرق والحركات. بالنسبة لهم كان السنوسي الكبير قديساً يصنع العجائب، ورجلاً صاحب بركة، وهو مقياس وافٍ لنعمة الله التي تتدفق من خلاله إلى الناس العاديين»1. وهذا ما كان يجعل أمي تفتح غطاء الصندوق وتبتهل كلما أحست بضيق أو خافت من شيء، دون أن يؤثر فيها تحول هذه الطريقة إلى مشروع سياسي.

في بداية السبعينيات، وعندما كانت الجمهورية تسير بالدفع الذاتي الناتج عن الطاقة التي وفرها زخم الحقبة الملكية، تحصلتُ على الشهادة الابتدائية، ووقتها كان الحصول على هذه الشهادة يستلزم من الطالب إحضار صورة شخصية له، وكانت هذه أول مرة أدخل ستوديو تصوير في مدينة البيضاء، بعد أن ألبستني أمي بدلة وقميصاً مزركشاً، وحرصت على أن تثبت لي أول زر عند الرقبة كتعويض عن فقدان ربطة العنق. وأزاح المصور الستارة لألج إلى مقعد في مواجهة كاميرا ضخمة مرفوعة على حامل من ثلاثة أرجل كانت مصوبة نحوي. وبعد انتظار ثلاثة أيام من أعمال التحميض والطباعة تحصلت على صورتي الفوتوغرافية الأولى.

في الأثناء كانت لعبة تعتمد على الصور تجتاح المدن والأرياف والنواجع، وهي ما نسميها في ذاك الوقت لعبة (التصاور) حيث انهمرت علينا صور المشاهير من العالم التي كانت، وغدا لكل منا كنز من الصور يتفاخر به كرصيد عظيم من صور مشاهير العالم الذين عرفناهم عبر هذه الصور الساكنة قبل أن نراهم عبر أفلام الصور المتحركة التي دبجت عصر إدراج الصورة في الزمن في قاعات السينما التي كانت تكتظ بها مدينة البيضاء ومدينة درنة.

في المراهقة كان من الممكن الحصول على أعداد من مجلات الكواكب والموعد الزاخرة بصور الفنانين، والفنانات الذي أصبح الاختلاء بصورهن الفاتنة متاحاً.
بعد عقود، ومع بداية ثورة فبراير، حدث أن عادت أول صورة شاهدتها للملك وانتشرت في كل مكان، مرفوعة في التظاهرات، وعلى الجدران، وملصقة وعلى زجاج السيارات الخلفي، ومدرجة في منصات التواصل، وأصبحت هذه الصورة التي كانت تنهض مع غطاء صندوق أمي أيقونةً في الوطن بأكمله رفقة العلم والنشيد الملكيين، ويبدو أن الليبيين اختاروا أن يبدأوا من اللحظة التي تاهوا فيها، أو من اللحظة التي تجمد فيها الدستور وحل الحماس الثوري الصاخب محل الدولة الهادئة. وبدأت تلك الصورة التي كان يعلقها الكثيرون متباركين بها، تتحول إلى مفهوم سياسي حين عادت إلى الفضاء العام بعد أربعة عقود.

تأثراً بالربيع العربي أنشأ شبان ليبيون من الداخل والخارج صفحة تحت اسم انتفاضة 17 فبراير بعد أن حددوا ذاك اليوم موعداً للثورة الليبية على النظام، مثلما حدد الشبان الرقميون في مصر يوم 25 يناير (عيد الشرطة) اليوم الموعود لثورتهم، وسرعان ما أصبح علم الاستقلال الصورة الشخصية لهذا الحساب وسرعان ما تسربت صور الملك وولي عهده لهذه الصفحة التي كان أعضاؤها بالمئات من غرب وشرق وجنوب ليبيا، ومن ليبيين في الخارج.

لقد كانت الصور أداة تعبير الليبيين الأولى عن أفكارهم لمستقبل ليبيا أو عن وحشية النظام السابق، ونوعاً من الخطاب الذي يفشي رغبات مضمرة، خصوصاً عند الجيل الذي عايش سنوات من تلك الحقبة، وانتشرت صور الشهداء عبر تاريخ المقاومة الليبية وصور المفقودين عبر حقبة النظام السابق، إضافة إلى رسوم الكاريكاتير التي ملأت الجدران والصحف الورقية ومنصات التواصل، ومن المفارقات التي أشرت إليها سابقا، أن ما كانت تسمى ثورة الشباب المتهكمة على شيخوخة الأجيال السابقة المنصاعة، كانت أيقوناتها المنتشرة والملهمة صوراً لشيخين، إدريس والمختار، ومنذ تلك اللحظة بدأ الصراع بين الصورة والمفهوم، أو بين الفكرة والصورة، فكان المشهد يُخبر شيئا وما يحرر من بيانات أو رؤى مكتوبة أو خارطات طريق تقول شيئا آخر، بما يشي بتناقض بين الصورة كأداة تعبير عن رغبة داخلية مضمرة لقطاع من المجتمع، وبين المفهوم المدون في البيانات المكتوبة كمجموعة أفكار تستجيب للظرف السياسي الدولي، وهو التناقض أو التصادم الذي جعل من خطاب التحرير في بنغازي مسرحية سيئة الإخراج.

والصراع بين الصورة أو التصوير عموماً وبين المفاهيم قديم، ومنذ زمن أفلاطون، الذي في سياق فرزه للحق عن الباطل، نأى بالفلسفة عن الفن الذي كانت أداته الصورة القاصرة عن مهمة حمل الأفكار كما يرى، واعتبر الصورة مجرد محاكاة للطبيعة مثلما السفسطائية مجرد محاكاة لزخرف اللغة، واستمر هذا الإقصاء لحقبة طويلة من الزمن، لكن مع إدراج الزمن في الصورة وبث الحركة فيها تحولت إلى لغة، ولعل أهم مشاريع فلسفة الصورة ظهر مع الفيلسوف جيل دولوز الذي عمل على إعادة الصورة ـ المتحركة خصوصا ـ إلى صميم المفهوم الفلسفي، منطلقا من إقراره بأنه إذا كانت الفلسفة الأوروبية تستخدم المفاهيم المجردة فإن (الحكمة) القادمة من الشرق الأقصى تعبر من خلال الصورة والتصوير، ليصل إلى مشروعه المتمثل في نظرية شاملة حول المفاهيم التي تثيرها السينما، مؤسسا لمدخل فلسفي جديد واكب السينما: علم الصورة أو ما يصطلح عليه بالأيقونولجيا، وفي كتابه الأهم في هذا المجال: «الصورة – الحركة أو فلسفة الصورة» أدرج السينمائيين الكبار مع المفكرين الكبار.

أما التوجه الإسلامي المحافظ تجاه فن التصوير توقف عند الرؤية الأفلاطونية، مثلما ارتبط هجاء الشعر والشعراء بطرد أفلاطون للشعراء من مدينته الفاضلة، وهذا التوجس من الصورة لاحق حتى اللحظة فنانين عرفتهم شخصياً توقفوا عن الرسم نتيجة شعورهم بالذنب، غير أن هذا التأثيم لاحق تاريخ الأفكار والإبداع في الفضاء الإسلامي، حيث كما يقول المفكر الجزائري د. محمد شوقي الزين، «إن (لا شعور التحريم) لا يزال فاعلاً»، في مقالته «الفلسفة والإبداع: سؤال التفلسف العربي»*، ويضيف الزين: «ما يقوله الفيلسوف في الخطاب عقلانياً يقوله الروائي بالكلمة والفنان باللوحة. الغرض هو التعبير عن التجربة الإنسانية من زوايا مختلفة تصب كلها في صميم هذه التجربة. لكن فيما كانت أشكال هذا التعبير بارزة في التاريخ الغربي منذ فنون النحت الإغريقية والرومانية إلى غاية الفن المعاصر والسينما والمسرح، مروراً بنضارة الفن الحديث في النهضة الإيطالية، ما عزز روح الإبداع بتغذية الخيال وتطوير المعرفة العلمية عبر البحث والتجريب، فإن أشكال التعبير في التاريخ الإسلامي كانت زهيدة، وكانت زاهدة في الوسائل المؤدية إليها. انفرد عشاق الصورة في الغرب بتنمية هذه التعابير بإيعاز من المجمعات الكنسية التي انتصر فيها رواد الأيقونة والتعبير الفني عن المشاهد الإنجيلية المقدسة، فيما كان الفضاء الإسلامي يحترس من الصورة، بتهذيبها وحصرها في مجالات محددة من الصورة الشعرية والزخرفة بالتوريق وبالخط العربي»2.

وانطلاقاً مما سماه الزين «لا شعور التحريم»، أو الشعور بالذنب الذي جعل فنانين مهمين يتوقفون، ورغم أن ثورة فبراير شكلت الصورة منذ البداية خطابها وأفكارها، إلا أن تسلل التيار الديني المحافظ إلى هذه الثورة وتحجيم خيالها، أفضى في النهاية إلى ملاحقة كتب الإبداع ومنعها، وقفل بعض الفضاءات الثقافية والفنية، وإزالة تمثال الغزالة وهدم الأضرحة وغيرها من الإجراءات التي تعتبر الفن عدواً للعقيدة، والصورة محاكاة للخلق الإلهي، والنحت حنيناً إلى زمن الأوثان. والأمر كما فعل طالبان حين عادوا إلى كابول، فانقضوا على الصور الدعائية في الشوارع بالتحطيم والطلاء، وقفلوا الكثير من المنظمات المدنية والفضاءات الثقافية والفنية التي انتشرت خلال عقدي ابتعاد حركة طالبان عن السلطة.

فيما يسمى عصر النهضة العربية اجتاحت الصورة خطابات هذه المرحلة عبر المسرح والسينما والرسم وغيرها من الأدوات البصرية، مثلما اجتاحت صور الزعماء المعبودين وسائل الإعلام والشوارع والمؤسسات، دون أن يختفي لا شعور التحريم الذي ما زال يتوجس من التصوير سواء كان مباشراً أو معبراً عنه في أجناس الأدب المختلفة. يقول الزين في خاتمة مقالته: «الإبداع فلسفياً، وكذلك الإبداع فنياً وأدبياً وعلمياً، وتكنولوجياً، هو مستقبل العرب، لا مناص من ذلك».

1ـ إدوارد إيفانز بريتشارد، «سنوسيو برقة: سيرة السيد محمد بن علي السنوسي ودور الحركة السنوسية في قيادة الجهاد ضد الغزو الإيطالي»، تعريب إدريس محمد التركاوي.
2ـ د. محمد شوقي الزين، الفلسفة والإبداع: سؤال التفلسف العربي، مجلة أفق، إصدار خاص عن مؤسسة الفكر العربي.