Atwasat

آخر تجاربي في بلاط صاحبة الجلالة

عمر الكدي الإثنين 12 فبراير 2024, 05:53 مساء
عمر الكدي

في العام 1994 مُنعت بأمر مباشر من معمر القذافي من نشر زاويتي الأسبوعية «مناكفة» في جريدة الشمس الصادرة عن المؤسسة العامة للصحافة. قال القذافي لعيسى عاشور أمين المؤسسة، لو فتحنا الجريدة للكلاب الضالة أفضل من ترك الكدي ينشر مقالاته، وطلب منه أن يبلغ جميع الكتاب من يرغب في الكتابة معنا مرحبا به، ومن اختار الكتابة ضدنا فليبحث عن منبر آخر.

طلبت من عيسى عاشور أن يسمح لي بكتابة مقال توديعي، حتى لا يعتقد القراء أنني منعت من النشر، وسمح لي بنشر مقال «استراحة المناكف، وقبل ذلك صادر مكتب اللجان الثورية في اجتماع ضم جميع الشعب، مجموعتي الشعرية الأولى «بذور في جراح الأرض»، التي سبق أن نشرتها على حلقات في جريدة الجماهيرية العام 1984، فانصرفت للكتابة في مجلة لا حتى توقفها العام 1994، وبعد أن عادت تحت إدارة جديدة رفضت الكتابة فيها، ولكني غيرت رأيي بعد سنوات قليلة وسلمت لإدارة المجلة مقالا بعنوان «حراس الجحيم»، ولم يصدر ذلك العدد ليس فقط بسبب مقالي وإنما لأسباب أخرى يطول شرحها، فعرفت أني وصلت إلى قمة سقف التعبير، وليس هناك مجال لرفعه أكثر، ويئست من إصلاح النظام وهو ما دفعني للخروج إلى المنفى، وهناك وجدت حرية بلا ضفاف، والفضل يرجع للدكتور إبراهيم غنيوة مؤسس موقع «ليبيا وطننا»، والمناضل حسن الأمين مؤسس موقع «ليبيا المستقبل»، إلى جانب عملي في إذاعة هولندا العالمية، حيث أثرت الكثير من الملفات الليبية، ولكن أبقيت مقالات الرأي للموقعين السالف ذكرهما، ولتجربة عابرة في مجلة الحقيقة التي شاركني فيها طارق القزيري ومجاهد البوسيفي ويوسف القماطي وسالم الحاسي، وبعد سقوط نظام القذافي كتبت في معظم الصحف الليبية الصادرة عن هيئة دعم وتشجيع الصحافة، وكانت الحرية بلا ضفاف قبل أن تسيطر قوات فجر ليبيا على طرابلس، وقوات حفتر على شرق ليبيا، فقتل وخطف وغيب العديد من الزملاء والزميلات والنشطاء وحتى أعضاء في مجلس النواب.
في العام 2014 التحقت بالعمل في «بوابة الوسط» كنائب لرئيس التحرير، ومنذ البداية اتفقنا في هيئة التحرير مع مجلس الإدارة على الفصل بين الهيئة والمجلس، وأشهد أن مجلس الإدارة احترم اختيارات هيئة التحرير، التي لا يخفى على أحد أنها اختارت أن تكون صوتا للتيار الوطني العريض، الذي يريد لليبيا أن تكون دولة ديمقراطية، بما في ذلك الفصل بين السلطات، وكفالة حرية التعبير والصحافة، ولكن التطورات في البلاد جاءت بما لا تشتهيه السفن، ونشرنا بأكبر قدر من الحيادية أخبار جميع أطراف الأزمة، ونشرت عشرات المقالات التي أثارت استياء الحكام الجدد، فبدأ التضييق على «بوابة الوسط»، حيث صادرت السلطات في شرق ليبيا لواقط البث للإذاعة المسموعة، وألقي القبض على شقيق رئيس مجلس الإدارة محمود شمام، وأفرج عنه بعد عدة أيام، ومن بين أسباب الاستياء مقالاتي، فتوقفت عن نشر مقالاتي العام 2016، حرصا على مصالح المؤسسة التي أعمل بها، وبعد مروري بوعكة صحية تطلبت سفري إلى هولندا للعلاج العام 2019، عدت للكتابة بعد تماثلي للشفاء في آخر العام 2022، واضطررت إلى ممارسة رقابة ذاتية خوفا على العاملين في «بوابة الوسط» داخل ليبيا، واتفقت مع رئيس التحرير الأستاذ بشير زعبيه على منع أي مقال يشكل خطرا على الزملاء في الداخل، أو يشطب على أي جملة في أي مقال، وحتى الآن كانت الحصيلة منع نشر مقالين تقريبا، وكانت مقالاتي تعكس حجم واتساع نفوذ القوى السياسية المتصارعة في ليبيا، فخلال تجربتي في «بوابة الوسط» كانت الكتابة عن مرحلة القذافي لا تثير أي قلق، وبعد نشر سلسلة «تشريح القنفذ» اشتعل المصباح الأحمر عدة مرات، فعرفت أن أنصار القذافي عادوا إلى مواقعهم السابقة في بنغازي وطرابلس، وقبل ذلك اشتعل المصباح الأحمر عندما حللت فكر السلفيين والأصوليين، وهم أيضا يسيطرون على بعض مفاصل السلطة في طرابلس.

توشك سلسلة «تشريح القنفذ» على النهاية، وفكرت في ما أكتبه بعد نشر كامل السلسلة، بحيث أكتب رأيي ولا أتسبب في إيذاء زملائي في الداخل، وقررت كتابة سلسلة جديدة عن «تاريخ الذكاء»، وأن أنصرف للبحث في الأنواع البشرية التي انقرضت قبل ظهور الإنسان العاقل، ولكني وجدت نفسي أعود من تلك الحقب البعيدة لمناقشة قضايا اليوم.

تجربتي مع «بوابة الوسط» تعكس أزمة حرية التعبير في كل الوطن العربي، وسبق لي عندما كنت نائبا لرئيس التحرير أن حجبت مقالات رأي لأسباب عديدة، واليوم وأنا كاتب مستقل أمارس قدر الإمكان رقابة ذاتية، وسمحت لكل من رئيس التحرير، ورئيس قسم الرأي، بحجب أي مقال لي، لأنني اكتشفت أن حرية الصحافة هي مفهوم مخادع، لن يتحقق إلا في مجتمعات ديمقراطية بالكامل وفقط داخلها وليس خارجها، فعندما يتعلق الأمر بمصالح الدولة وعلاقاتها، يمكن التضحية بحرية الرأي المقدس من أجل مصالح الدولة الأكثر تقديسا، وهذا ما اتضح في تغطية الإعلام الغربي لمجازر غزة. واليوم تملك الشركات الكبرى تقنيات تحجب كل ما تكتب على مواقع التواصل الاجتماعي وأنت تتوهم أن هناك من يقرأ لك. فإذا وصلكم مقالي كاملا فهذا بفضل اتساع صدر هيئة التحرير، وإذا وصلكم مبتورا دون ذيل فقد قطعه رئيس التحرير، أو مسؤول قسم الرأي، أما إذا لم يصلكم فقد وقع في المصيدة. أتمنى المزيد من التقدم والتوفيق للزملاء والزميلات في «بوابة الوسط»، فهي لا تزال رغم ذلك كوة للتنفس.