Atwasat

حوار مع صديقي الملحد

رمضان المصراتي الخميس 08 فبراير 2024, 09:02 مساء
رمضان المصراتي

ثمة طريق تأخذك إلى روما، وثمة آخر وآخر، فكل الطرق تأخذك إلى روما، وكنت إحداھا فى العام 2005/2004 لأدرس دبلوم الصحة العامة النفسية في ذلك البلد التلقائي، وكذلك أغلب أھله، ثم في السكن التقيت ذلك الملحد، وعلى الرغم من جذوره اللبنانية، فإنه ولد في الأوروغواي من أب عربي ھاجر بلده منذ شبابه بحثا عن ذاته وظروف حياة أفضل في بدايات السبعينيات، حيث كان التمدد الشيوعي في ذروة مجده وقوته في مواجهة التوجھات الرأسمالية الغربية، وكانت دول أميركا اللاتينية تشكل ذلك الجناح الذي رأسه في أوروبا الشرقية، وشكل بروز ثورات في ذلك الجناح الأميركي اللاتيني عندما ضاق ذرعا بأھوال الرأسمالية التي كانت تبدو بيتا جميلا مظھره آخاذ وبراق، وباطنه العذاب والمعاناة والقسوة تلك التي تتبع الألفة، فتجعل من الإنسان مثل عشب مخضر ينمو علي حجر قاسٍ.

تزوج والد ھورھيه من تلك الفتاة من الأوروغواي، واحتفي بنكھة السيجار الكوبي، ومولوده الجديد الذي لم يكن من مفر أو مجال سوى أن يتربي أو يعيش في ذلك المناخ الشيوعي، فكان ھو ھورھيه الذي يتحمس حين يرى أحدھم يتعبد أو يذكر إلھا أو في حديثه يشير أو يرمز إلى إله، وكنا قد التقينا في تلك الفوروستيريا التابعة إلى التضامن الاجتماعي الإيطالي، لنقيم فى غرفھا جيرانا.. نلتقى فيھا معا، وكان معنا طبيب آخر سوداني متصوف، فكان أول الصدام الفكرى بينه وبين ھورھيه منذ التقينا في الأيام الأولى، بينما كنت ألزم الصمت في بداية الحوارات، وأراقب عن كثب ذلك الخلاف المتعمق والعميق في فلسفة الزملاء الاثنين، حتى إنه في إحدى الليالي الباردة من شھر يناير انتبه ھورھيه، بعد أن اشتد الحوار بينه وبين الطبيب السوداني في مسألة السكينة التي يشعر بھا المسلم ولا يتحسسھا الملحد، أن الطبيب السوداني يتأخر في الذھاب إلى غرفته عندما نترك الصالة، حيث يبقى معي بعض الوقت، وكنت قد عرفت من الطبيب السوداني، الذي كان متخصصا في الطب العام، أنه يخاف الوحدة، وفور أن عرف اللعين ھورھيه ذلك قدم إلى الطبيب السوداني، وقال له: لماذا تخاف البقاء في غرفتك وحدك.. أليس الله معك؟ وبالقدر الذي كان به ھذا الموقف مضحكا إلا أنني عندما رأيت صديقنا الطبيب السوداني قد صدم وارتبك اقتحمت النقاش، وفتحت جبھة النضال الفكرى مع فتي الأوروغواي الشيوعي بالفطرة، الذي يحمل بداخله جينات الأوروغواي اللاتينية، وجينات الأب اللبناني العربي الجريء.

تصادمنا فكريا كثيرا، فإصرار ھورهيه علي إنكار الخالق، وفلسفة كل ما يحدث حولنا بشكل علماني وإلحادي كان يستفزني لدرجة كنت أريد أن ألطمه على وجھه الجميل، ولكنه كان يعرف جيدا بھدوئه كيف يروضني عندما يراني قد ضقت به ذرعا وبعناده، ولكنه لا يلبث عندما يراني متعبا أو مشغولا أن يتعمد استفزازي بعبارات السخرية التي تدعو إلى التفكير بطريقة ما فى قضايا فلسفية ووجودية، حتى إنني أذكر أني قلت له يوما لو أنه لم يقل لي إن والده ھو رجل لبناني يعمل في تربية وبيع الخيول لكنت اعتقدت أنه ولد حفيد لسارتر، فيضحك ھو من ھذا الكلام، ويزداد عنادا، ولكن احترامي لأساسيات وخبرات قد تعلمتھا مبكرا جعلني أحاول أن أستوعب مثل ھؤلاء، ولا أجعل منھم أعداء إذا لم أستطع كسبھم أو إقناعھم.. ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك.

حاولت أن أكظم غيظي، وأستوعب صديقي الملحد ما استطعت، حتى جاء أحد أيام يناير الباردة، وكنا في طريق العودة من جامعة سبيانسا في وسط روما، وكنا نرتاد الباص أو الحافلة، للوصول إلى الجامعة عند الساعة التاسعة صباحا، ثم في طريق العودة نتخذ السبيل نفسه، وكان ذلك اليوم باردا برود مشاعر قومي الذين كانوا يصرفون أموالا طائلة على أشياء تافهة في الوقت الذي لو لم تسعفنا تلك المنحة البسيطة التي سخرھا الله لنا، لتيبست عروقنا من البرد والجوع.

وعند رجوعنا، توقفنا في محطة القطارات بعد أن نزلنا من الباص، وكنت أنا وھورھيه معا، فتركت حقيبة كتبي معه، وذھبت إلى الصلاة، وفي أثناء وقوفي لم يترك ھورھيه الفرصة، فأخذ في السخرية مني، قائلا: أدعُ لنا إلھك أن يمنحنا طريق عودة آمنا ودافئا وعشاء في ھذا اليوم البارد، فذھبت إلى الصلاة بعد أن قذفت حقيبة الكتب بالقرب منه، وحين رجوعي من الصلاة استطرد قائلا: يبدو أن إلھك لم يكترث بنا، لأنه علم أن سوء الأحوال والبرد الشديد تسبب في تأخر الحركة. في أثناء ذلك، رن جرس ھاتفه المحمول، ويبدو أن صديقته كانت على اتصال به، وأومأ لي بأنه يريد أن يتحدث معھا، ولكن في أثناء خطواته الأولي كانت هناك سيارة مسرعة بشكل جنونى مرت أمامه، ولولا حركة لا إرادية وإزاحة، لم يكن لھورھيه صديقي الملحد أي إرادة فيھا، لكان قد صدمته السيارة، ويكون في عداد الجرحي الخطيرين إن لم يكن في عداد الأموات.

وقف ھورهيه واجما صامتا، لا يجرؤ على النبس ببنت شفة، دفعته وقمت برش بعض الماء على وجھه، وحظي مني بعناق، وقلت له ھامسا في أذنه: ھذا ھو يا ھورھيه.. ھو ما نعبد، ونحاول أن نخلص النيات إليه.. الحمد لله على سلامتك، فقال لي: لماذا؟ فقلت له: لأنك رفيقي.. أخي، وأنا أحبك. خفض ھورھيه رأسه، وسالت دموع من عينيه، وسرعان ما كانت الصدمة أن يظھر ذلك الذي في قلب ھورھيه عن الله، فسرعان ما قال لي: إن الله يرعانا، أفلا ينبغي أن نرعي بعضنا الآخر؟ّ وابتسم لاحقا ونحن نركب القطار، وقال لي: انظر.. أن تقول للإنسان إني أحبك أفضل مئات المرات من أن تقول له إنك سوف تعيش للأبد، ثم وصلنا لمكان السكن، وكان ذلك اليوم ھو عيد ميلاد رئيس مركز برنامج علاج الإدمان الإسباني، حيث كانت الفوروستيريا مكان إقامتنا داخل مكان ذلك المركز، وقد دعينا لذلك العشاء الفاخر، ونظر لي ھورهيه، فقلت له: لقد استجاب الله لدعائى يا ھورھيه بناء علي طلبك. ابتسم ھورھيه، ومد يده لشراب المسكر الفاخر، وقال لي بدھاء: نعم استجاب الله لدعائنا جميعا، وشعرت أنه ثمة شيء ما حزين في ابتسامته، ولكنه على الرغم من ذلك عندما جاءت السيدة مارتينيز المسيحية المشرفة على السكن، وقالت لنا: إن الإيمان موجود في قلوب ثلاثتنا، عندما أتت مصطحبة معھا صديقنا الطبيب السوداني، وثمة دموع تترقرق في مقلتيها.