Atwasat

منطلقات «الجابري» الفكرية في نقد العقل العربي (1-8)

سالم الهنداوي الخميس 08 فبراير 2024, 07:09 مساء
سالم الهنداوي

.. ما عاد السِجال ممكناً في قضية فكرية مهمّة أخذت من وقت العرب الكثير، ولطالما انشغلنا بهمومها الجوهرية وانفتاحاتها على العقل والإدراك، واعتبارها القضية الأهم في حياة أمة تبحث عن هُويتها بين الأمم.

نما "سؤال العقل العربي" في فكر "محمد عابد الجابري" ونخبة مجايلة من المفكِّرين، بموروث ثقافي عظيم، كان الدين وفلسفة الوجود والعقلانية من أهم مكوّناته المعرفية في زمن الخلاصات التنويرية والثورات الثقافية الكُبرى في العالم والبلاد العربية، وهو السؤال الثابت والمتحوِّل الذي بدأ بأين؟ ولم ينتهِ بلماذا؟.. لتبقى كيف؟ هي جوهر السؤال الذي أخذ مساحة التفكير إلى مجاهل بعيدة لم تصل بنا إلى نتيجة واثقة يمكننا البناء عليها وتأسيس ميكانزمات محدّدة لفكرة المستقبل، برصيد تلك المعرفة غير الطارئة واستشرافها الذي اعتمد على الموروث الفكري، الديني والاجتماعي، وفلسفته في بيئة لم تكن صالحة لتطرح السؤال الفكري الأهم الذي انهار نتيجة الصدمة المعرفية بواقع مختلف تأسّس خارج المعرفة وخسر مفهوم الحداثة في تطلُّعاتها التي نمت خارج رحم التأويل لتفقد هرمونها الجنيني في جسد النخبة المصدومة بواقعها.. فعلى الرغم من سجالات العقل العميقة لسنواتٍ بين مفكري التنوير والحداثة، أضحت المفاهيم في عمومها مجرّد طروحات نظرية لا علاقة لها بواقع المجتمعات التي تعيش على قواعد أنظمة سياسية بلا فكر!

مضت أكثر من 150 عامًا على انطلاق حركة التنوير العربية وما زالت الأسئلة تُطرح، وبكثافة، حول الأثر الذي حقّقته في تحرير العقل من الوصاية ومن التبعية للماضي؟ وكيف بدا موقف التنويريين العرب من التراث ومن الدين ومن الحداثة؟

كان التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر تعبيراً عن موجة فكرية أعقبت مرحلة الاكتشافات العلمية، وقد توزّع مفكرو تلك المرحلة على المجالات المعرفية كافة، من العلوم الطبيعية والتاريخ والفلسفة حتى صنوف الكتابة في الأدب والمقالة، وكانت باريس مركز هذه المرحلة الفكرية دون منازع.. أمّا سؤال التنوير عربياً فهو ما زال يثير الجدل في أوساط المفكّرين منذ قرن ونصف، فهل كان التنوير ضد الدين أم عليه أن يكون مشابهاً لما عرفته أوروبا في القرن الثامن عشر من نقاشات ونشوء تيارات بين عددٍ من الفلاسفة كأفكار "كانط وجون لوك وفولتير وستيوارت ميل" وغيرهم.

يلاحظ المتابع لحركة التنوير العربية منذ القرن التاسع عشر وحتى بداية القرن العشرين أن العديد من المفكرين والمثقفين العرب وظّفوا مصطلحي التنوير والنهضة في كتاباتهم دون أي تفريق بينهما، فكانت كتابات "رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين وخير الدين التونسي" ونقاشات "فرح أنطون ومحمد عبده" وغيرهم، هي التنوير والنهضة العربيين في آن واحد، كما هو الحال مع المؤرخ "ألبرت حوراني" في كتابه "الفكر العربي في عصر النهضة".. وقد سعى المفكر العربي "فهمي جدعان" في مقالته "ما التنوير عربياً؟" إلى وضع قائمة متطلّبات التنوير الحقيقي بدءاً من ضرورة إشاعة الإستراتيجيات المعرفية اللازمة لتطوير الفهم والإدراك والمعرفة بواقع الذات والعالم عند المواطن العربي، وتشديداً على مطلب الحرية ومكافحة الاستبداد السياسي ونقد القيم وفوضاها وتحللها في القطاع الأخلاقي، والتنبيه على انحدار الذائقة الجمالية وانحطاطها في أشكال الفنون الرائجة.. وفي هذا السياق يرى الأكاديمي والباحث في الفلسفة والعلوم الإنسانية "أنطوان سيف" أنّ "العرب يعيشون بين عالميْن، عالم متفوِّق جداً، وعالم في طور التنمية"، ويؤكِّد أنّ هذا الواقع جعل هناك "لا توازن قوى" وفرض "تحدّيات غير مسبوقة" في مجال التنوير العربي، ويوضح أنّ ما جرى عبارة عن "تثاقف بشكل عشوائي" بين العالميْن، العربي والغربي، مشيراً إلى كيفية انتقال العلوم والمعارف من مكان جغرافي إلى آخر.. ويلفت "أنطوان سيف" النظر إلى أن فكرة "البرلمان" بحدِّ ذاتها لم تصل إلى العالم العربي إلّا متأخراً، معتبراً أن العرب عاشوا مرحلة "تخلُّف" ووجب الوعي به.

أمّا بالنسبة إلى النقد الذي يوجّه إلى حركة التنويريين العرب وأسباب الإخفاقات، تعتبر "أم الزين بنشيخة المسكيني" أستاذة الفلسفة في جامعة تونس المنار، أنّ هذه المسألة لا تزال راهنة بالنسبة إلى العالم العربي رغم أنها لم تعُد راهنة بالنسبة إلى الغرب، وتوضح أن الغرب دخل منذ قرابة قرن من الزمن، وتحديداً منذ ستينيّات القرن الماضي، في أزمة الحداثة ونهاية السرديات الكبرى، وفي عصر ما بعد التنوير وعصر ما بعد ميتافيزيقي، وتضيف "المسكيني"أن الوطن العربي يمتلك سياقاته الخاصة نظراً لخصوصياته الثقافية المختلفة، نافية أن يكون هناك إخفاقات في التنوير العربي، بل هناك حركة فكرية وفلسفية مستمرّة، بدأت مع جيل "الإصلاح الديني" أو ما كان يسمّى وقتها "روّاد النهضة الأولى"، وتؤكد أنّه يجب عدم التبخيس بالفلسفة العربية المعاصرة وما قامت به من مشاريع للنهوض بإمكانية فكر عربي معاصر.. وعن علاقة العرب بالحداثة توضح "المسكيني" أنّها علاقة متوتّرة جداً نعيشها إلى يومنا هذا، بدأت بنوع من الصدمة من هذا المفهوم المرتبط بالاستعمار، فانقسم العرب بين مندهش من هذا التقدّم التكنولوجي مّا أدى إلى سلوك تبعية وإحساس بالدونية أمام الغرب وسردية التخلّف العربي. أما القسم الثاني فنادى بإصلاحات دينية وإعادة تأويل النصّ الديني، وانكفأ على جهاز الملّة باعتباره الجهاز الوحيد القادر على إنقاذ الهُوية العربية الإسلامية.

في هذا السياق النقدي بين مثقفي المشرق والمغرب حول "التنوير" بوصفه منطلق حداثة، وسؤال "العقل العربي" الذي بنى منهجه المعرفي على خلفية التنوير والمُستفاد من الموروث الفكري، الديني والاجتماعي، تظل أزمة الفهم والإدراك هي معضلة التفكير الأولى، نحو الخلاص من إشكالية سوء الفهم، واحتواء "المعرفة" كأساس بنيوي لنهضة الأمم، وهي المنطلقات الفكرية الضامنة للمستقبل الإنساني وبرؤية "الحداثة" وثوابتها الفكرية الإنسانية المؤسّسة على قاعدة الحوار المشترك بين الحضارات.