Atwasat

عن المعجزات السياسية

جمعة بوكليب الأربعاء 07 فبراير 2024, 05:42 مساء
جمعة بوكليب

حتى لمن كانوا مثلي، ممن يعتقدون أن زمن المعجزات قد ولّى وانقضى، وأن العالم الواقعي الذي نعيشه قد دخل عصر الإلكترون، ولا سبيل إلى الرجوع إلى الوراء ما لم تحدث حرب عالمية نووية، يلزمهم جميعًا إعادة النظر في قناعتهم سالفة الذكر.

ما نراه يحدث في العالم من تطورات وأحداث تؤكد، إلى حد ما، أن أرض المعجزات وإن أخذت في الانحسار حتى ضاقت جدًا، إلا أنّها، فيما يظهر لنا من حين لآخر، لم تنته بعد وتتلاشى من عالمنا الأرضي. وعلى سبيل المثال لا الحصر، من كان يصدق أن يرى المؤتمر الوطني الأفريقي بقيادة الزعيم الراحل نيلسون مانديلا يصل عبر صناديق الانتخابات إلى الحكم في جنوب أفريقيا في العام 1994.

قد لا يتفق معي البعض في هذا الاستنتاج، على اعتبار أن النتيجة المتحققة في جنوب أفريقيا بسقوط نظام الميز العنصري لم تأتِ عبر معجزة، كما أزعم، بل عبر مسيرة نضال شاقة وتضحيات مكلفة طيلة سنوات طويلة. لا أحد مطلقًا يشكك في صحة ذلك.

دور المعجزة في فهمي يتمثل في أنها توفر للحدث الهائل والمستحيل البيئة السياسية المناسبة للتحقق، عبر خلق وضعية سياسية جديدة تقبل بما كان «تابو» طيلة عقود مديدة. وهو رأي شخصي جدًا، ولا ضرر يلحقني شخصيًا فيمن يود الاختلاف معه. وفي حالة جنوب أفريقيا، تحقق ذلك بموت رئيس النظام العنصري إيان بوتاه، ومجيء بديله دي كليرك.

وما جرني للحديث عن المعجزات السياسية، خبر تابعته، غير مصدق، في القنوات الإخبارية التلفزيونية في الأسبوع الماضي، يتمثل في اتفاق الأطراف المتصارعة في أيرلندا الشمالية على العودة إلى المشاركة في حكم الإقليم، وعودة البرلمان المحلي بكامل أعضائه للانعقاد، عقب إغلاق استمر عامين، بسبب انسحاب أكبر حزب اتحادي بروتستانتي وهو حزب الاتحاديين الديمقراطيين- Democratic Unionist Party, DUP من المشاركة في الحكم احتجاجا على وضعية الإقليم التجارية بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

المعجزة، موضوع هذه السطور، تمثلت في قبول الأحزاب البروتستانتية الاتحادية بتسليم رئاسة حكومة الإقليم للمرّة الأولى إلى رئيس أيرلندي الأصل كاثوليكي المذهب، يدعو إلى وحدة أيرلندا الشمالية مع أيرلندا، وقطع العلاقة بالتاج البريطاني. الرئيس الجديد سيدة اسمها ميشيل أونيل، زعيمة حزب شن فين الجمهوري. وشخصيًا، كنت أظن أن هناك احتمالًا كبيرًا بأن أرى، يومًا ما، قنفذًا يتكلم بلسان عربي فصيح من أن يتحقق ذلك. أليس هذا سببًا كافيًا يدعونا إلى وصف الحدث بأنه تاريخي، وتحققه يشبه حدوث معجزة؟

الجمهوريون الداعون إلى وحدة أيرلندا، جنوبًا وشمالًا، لم يجلسوا على مؤخراتهم في انتظار تحقق معجزة سماوية. بل عملوا وكافحوا، ودفعوا ثمنًا باهظًا ومكلفًا، وقادوا نضالًا عسكريًا وسياسيًا. دور المعجزة أنها خلقت الظروف السياسية المناسبة، ممثلة في حدوث «بريكست»، خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. الغريب والعجيب أن الاتحاديين دعموا «بريكست»، وخاصة حزب الاتحاديين الديمقراطيين، وأن الجمهوريين دعموا البقاء في الاتحاد الأوروبي. ومنذ العام 2016 عام الاستفتاء إلى وقتنا هذا، بدأت الأنشوطة تضيق حول أعناق الاتحاديين، وبدأت سمعة حزب شن فين في البروز. وتأكدت في الانتخابات المحلية الأخيرة، حين تمكنوا من الحصول على أكبر عدد من مقاعد البرلمان المحلي.

عندئذ، طالبوا بممارسة حقهم في تولي رئاسة حكومة الإقليم، وفق نصوص اتفاق السلام الموقع عام 1998.

كان الوصول إلى السماء السابعة، أقرب إلى الجمهوريين من الجلوس على ذلك الكرسي، الذي ظل حكرًا على الملكيين الاتحاديين البروتستانت من أصول بريطانية. لكن في الأسبوع الماضي، حدثت المعجزة من دون حاجة الجمهورين الوحدويين الكاثوليك إلى تكبد مشقة الصعود إلى أي سماء.

المعجزات السياسية في العادة تحدث على الأرض، لأن السماء ليست في حاجة إليها، على الأقل في الأزمنة الآنية، ولا أحد يراهن على ما قد يحدث في الكون من تطورات مستقبلًا نتيجة تقدم التكنولوجيا الفضائية.
وحتى لا ندوخ في تفسير حدوث المعجزات، دعونا نؤكد على حقيقة واقعية مثبتة وهي أن الشعوب التي تتمسك بحقها في الحياة بكرامة، وترفض الخنوع والاستسلام، لابد أن تصل في آخر المشوار إلى تحقيق ما كافحت من أجله طيلة أعوام طويلة.