Atwasat

التنظيمات السرية في الجيش الليبي 1952- 1969 (5)

سالم الكبتي الأربعاء 07 فبراير 2024, 04:23 مساء
سالم الكبتي

انحسر التنظيم الأول والأعرق في الجيش ولم تمطر غيماته وتضاءلت فرص نجاحه. صار أفراده من الضباط رغم تنوعهم في عضويته ما بين خريجي العراق عام 1957 ومدرسة الزاوية العسكرية والكلية العسكرية في بعض دفعاتها.. صاروا مشتتين وتفرقوا في تنظيمات أخرى بدأت تعمل بدورها في جانب منافس أو تركوا العمل العسكري السري إلى غير رجعة وعرفوا، بحكم الضبط والربط وصرامة الحياة العسكرية اليومية، أن في ذلك مجازفة لا تحمد عاقبتها.

لعل تنوع العضوية بين ضباط مختلفين في التخرج والأقدمية والرتب ألقى بظلاله على عمل التنظيم. إن عدم التجانس هنا بشكل أو بآخر يبدو أنه أثر تأثيرا مباشرا في استمرار التنظيم وسريته وهدفه. فيما ظل قائد التنظيم فوزي الدغيلي من الضباط الكبار المهمين في الجيش وأصحاب الكفاءة والمقدرة وانصرافه الكلي للحياة العسكرية وقد كان في الوقت نفسه آمرا لمدرسة المشاة في المرج منذ تأسيسها عام 1962 ويشار إلى أنه أيضا كان من ضمن الضباط الذين لعبوا دورا في إفشال حركة التمرد التي شهدها الجيش أواخر عام 1961 عقب إقالة أمير اللواء السنوسي الأطيوش. كان أغلبية ضباط تلك الحركة من حامية المرج مع ملاحظة أن الأطيوش والدغيلي تجمعهما في الأصل علاقة اجتماعية قبلية.

إن تباين الدفعات العسكرية في صفوف الجيش بين الضباط بعد الاستقلال خلق، ولو بطريقة غير منظورة، نوعا من الحساسية أو الغيرة أو عدم التجانس المطلوب بين أولئك الضباط. فثمة منهم مجموعات من بقايا الجيش السنوسي وهم يكادون يكونون غير مؤهلين عسكريا تأهيلا عاليا ويفتقرون إلى التعليم أو الثقافة المطلوبة.

ثم دفعتا مدرسة الزاوية العسكرية اللتان تخرجتا في مدة زمنية قريبة بينهما أواخر عام 1954 ولم تستغرق دراسة الضباط بهما فترة تجاوزت ستة أشهر بسبب احتياج الجيش في كوادره لمزيد من الضباط يسدون نقص الضباط الأقدم المفتقرين إلى التأهيل لكنهم يمتلئون تجربة وخبرة قديمة سابقة وتولي مناصب ومهام الضباط العراقيين المتواجدين في وحدات الجيش بحكم الاتفاقية العسكرية بين المملكتين الليبية والعراقية.

ثم الدفعات التي تخرجت في تركيا ومصر ثم دفعات العراق. لقد تأكد بهذا التطور نشوء الحساسية البشرية المتوقعة بين هؤلاء جميعا وهذا التباين وتلك الحساسية حتما ستجعل جوانب وحواجز في التعامل المرن أو الذي يحوز الثقة في النفوس واضحة عند تكوين التنظيمات السرية العسكرية واختيار أفرادها من بين هذه الدفعات. إذ إنه لا يمكن لأي تنظيم منها أن ينال النجاح في وجود هذه الحساسيات التي ظلت كما أشرت قائمة ولو من وراء ستار وأضحى ثمة تسميات وأوصاف في الجيش تشتهر بين أفراده أو حتى وسط الناس خارجه.. فهذه مجموعة ضباط الشرف (غير الخريجين أو المؤهلين) وأخرى مجموعة الزاوية وتلك مجموعات العراق ومصر ثم بوعطني.. وهكذا تباينت واختلفت صفوف الضباط بحكم الظروف والإمكانيات والواقع.

في مذكراته المخطوطة بيده (لم تنشر) أشار د. مهدي المطردي أحد أعضاء جمعية عمر المختار في الصفحة 181 وما بعدها بأن الجمعية رغم توقف نشاطها كانت على علم بكل الحركات السرية في الجيش على مختلف تنظيماتها. وعلل ذلك بأن معظم الضباط الذين احتوتهم تلك الحركات، كما يشير في هذا المخطوط، كانوا ينتمون في شبابهم إلى الجمعية في بنغازي قبل إغلاقها عام 1951 وظلوا يتعاطفون على الدوام مع قادتها خلال وجودهم في الجيش.

وأكد في هذه المذكرات على أن تنظيم العراق (فوزي الدغيلي) كان على اتصال مستمر بالأستاذ مصطفى بن عامر رئيس الجمعية هو وشقيقه جلال الدغيلي الضابط في الجيش.

وتصور د. المطردي أن هذه الحركة السرية العسكرية تهدف إلى إصلاح الجيش من وجه الفساد الذي يعم أركانه مشيرا في ملاحظة دقيقة إلى أنه لم تكن لهؤلاء الضباط في هذا التنظيم بدءا من قائده إلى آخر عضو فيه أية صفة أو مسحة بعثية رغم دراستهم العسكرية في العراق وتخرجهم هناك، فقد ظل من المعروف أن كل من درس في العراق على المستوى العسكري أو المدني تلك السنوات تناله هذه الصفة. كانوا في رأيه يتمسكون طوال وقتهم بأهداف الجمعية الوطنية والقومية ويتشبعون بها وظلوا في مداومة الاتصال واللقاءات مع رئيسها.

وسيمر بنا لاحقا أن د. المطردي سيشير كثيرا في مذكراته وذكرياته إلى تنظيمات عسكرية أخرى تواصلت مع الجمعية وأعضائها وهذه شهادة، إذا ما صحت تماما، فإنها ترسخ في كثير من الأذهان أن هذه التنظيمات تتحرك طوال وقتها ما وسعها الجهد وتحاول إنشاء أو تكوين شبكة من العلاقات مع الجمعية أو غيرها لكسب تأييدها ومؤازرتها إذا ما نجحت في الوصول إلى هدفها بتغيير السلطة في البلاد، إضافة إلى أن هذه الشهادة تبين بوضوح أن أعضاء الجمعية بدورهم لم يكونوا بعيدين عما يحدث داخل الجيش وأنهم أيضا يتحركون ويمدون خيوطا من التعاون مع هذه التنظيمات ولا يرون أي غضاضة في ذلك.

فهل كانت الجمعية، رغم توقفها ومنعها من العمل السياسي المعلن، رديفا خلفيا لهذه التنظيمات أو بعضها.. أعني هل هي امتداد للتنظيمات في جانبها المدني وهل كان ثمة تنافس أو تسارع شديد غير منظور بين التنظيمات العسكرية لخلق تنظيم مدني وراء الكواليس.. هل اقتبست هذه الرؤية من بعضها، فقد لاحظنا أيضا أن تنظيم الضباط الملازمين الصغار الذي نجح في الوصول إلى السلطة لديه خلايا أو تنظيمات مدنية واسعة، كما يقال عنها، بدأت برحلة أربعة آلاف يوم في سبها البعيدة عام 1959. هل ثمة رابط غير واضح بين ما حدث أو أنه تم بعفوية وبطريق الصدفة.

إن ذلك سيلاحظ بين ما ظهر من تنظيمات اتخذت طابع السرية داخل الثكنات لكنها سعت في الوقت نفسه إلى علاقات مع تنظيمات سياسية مدنية قديمة. ويظل ثمة سؤال كبير ينهض في الوجوه مفاده.. هل وصلت الثقة إلى مداها الكبير بين هؤلاء العسكريين وبين أولئك المدنيين الذين يكبرونهم سنا ويختلفون عنهم في التجربة والمعرفة.

هل وجد المدنيون بهذا الشكل في تلك الأيام الأمل الأخير في الحراك العسكري وانطلاق الدبابات والأسلحة نحو الشارع بعد أن استنفذوا كل محاولات الإصلاح والتغيير. إلى أي حد نجحوا في تلك الرؤية رغم إدراكهم لواقع التجارب العسكرية المجاورة والبعيدة؟

.. ومع ذلك تواصل تكاثر التنظيمات في الجيش حتى دون تنسيق أو لقاء مع أية مصادر أو مرجعية مدنية في ليبيا التي ظلت تنتظر المجهول القادم ذات يوم من وراء الشمس!