Atwasat

الصحافة الأدبية في صفحات مطوية! (2-2)

سالم الهنداوي الخميس 01 فبراير 2024, 05:39 مساء
سالم الهنداوي

.. مع إرهاصات عصر "التنوير العربي" الذي لم يكتمل معرفياً كمشروع "فكري نهضوي" لاعتباراتٍ كثيرة، اجتماعية واقتصادية وسياسية، ليتقاطع بالضرورة مع عصر النهضة الأوروبية، وليجد نفسه غريباً بسؤال المعرفة الحائرة بين الدين والعلمانية.

.. في أتون تلك الحقبة العربية الخصبة بثوراتها المعرفية، ظهرت حركة التجديد في الشعر العربي وطرحت "الحداثة" مشروعها في الاختلاف.. فجاءت في العام 1957 مجلّة "شعر" لمؤسسها الشاعر اللبناني "يوسف الخال" لتتأسّس عليها تجربة الشعر الحديث بأصوات عددٍ من روّاده الكِبار من أبرزهم: "يوسف الخال وأدونيس وتوفيق صايغ وأنسي الحاج وخليل حاوي وشوقي أبو شقرا وعصام محفوظ وجبرا إبراهيم جبرا ومحمد الماغوط وخالدة سعيد وفؤاد رفقة ورياض الريّس" في تشكيلة شعرية دأبت على تحرير الشعر من التفعيلة وأنماطها التقليدية، في وقت حافظت على علاقتها بالشعر الحُر وشعرائه الكِبار من أمثال "السيّاب".. لكن تلك التجربة الجريئة التي داهمت العروض، تعرّضت لأسئلة الثقافة وعلاقة الهُوية بالموروث الثقافي التي أدلى فيها أدونيس وأنسي الحاج وخالدة سعيد عديد بالرؤى والطروحات الفكرية وأهمُّها أن "الحداثة" في جوهرها تعني تأصيل التراث، وبرز هذا الطرح الفلسفي كثيراً في أجزاء كتاب "الثابت والمتحوِّل" لأدونيس، فيما اكتفى الآخرون بكتابة الشعر والتجريب فيه دون أي اجتهاد نظري، وأبرزهم كان "الماغوط وتوفيق صايغ وأبو شقرا" فيما كرّست قرينة "أدونيس" الدكتورة "خالدة سعيد" جُل اهتماماتها النظرية خلال عقود بحركة الشعر الحديث وبالحداثة، حتى وصلت مع أدونيس إلى طرح أسئلة "ما بعد الحداثة" في الشعر والفكر والتنوير العربي.

كان صدر العدد الأول من فصلية "شعر" ببيروت في شتاء عام 1957، ثم توقّفت عن الصدور نهائياً عند العدد 44 في خريف العام 1970 بعدما توقّفت جزئياً بين عامي 1964 و1967.. لكن في الرصد الثقافي للمجلّات الأدبية فقد سبقت "شعر" مجلّة “أبولو" التي صدرت في القاهرة عن "جماعة أبولو الشعرية" وأسّسها الشاعر الدكتور "أحمد زكي أبوشادي" في سبتمبر من العام 1932 واستمرّت في الصدور حتى ديسمبر من العام 1934، أي أن أبولو صدرت قبل شعر بنحو 27 عاماً، وبذات الهدف والدعوة للحداثة الشعرية، وكانت السمة المميّزة لها أنها كانت تنشر لشعراء صغار مغمورين لم يسمع بهم أحد، وكانت تقدِّم هؤلاء المغمورين على الشعراء المشهورين لتعرِّف الناس بهم، وجرت العادة أن تنشر للواحد منهم في العدد الواحد أكثر من قصيدة.. وقد حظيت "أبولو" حينها باهتمام النخبة الثقافية العربية وتزيّنت صفحاتها بألمع الكُتّاب والشعراء العرب أمثال: "أحمد شوقي وخليل مطران وعبّاس العقّاد والرافعي وإبراهيم ناجي وأبي القاسم الشابّي ومحمد مهدي الجواهري وإيليا أبي ماضي وإلياس أبي شبكة".

.. نشأت مدرسة "أبولو" الشعرية في الثلث الأول من القرن العشرين وكانت تهدف إلى السمو والرقي بالشعر والشعراء، وجعلهم في مرتبة أدبية واجتماعية عُليا ومساندة حركات النهضة الفنية في عالم الشعر، كما أنها جاءت كتعبير عن طموحات وآراء طائفة من أعلام الأدب والشعر والنقد العربي، وقد نشأت المدرسة في ظروف تاريخية لم تكن حركة الشعر بالمستوى المطلوب، فقد شهدت مصر في أثناء تلك الحقبة تأخراً كبيراً في حركة التعليم، وكذلك تأخراً في حركة الكتابة في الصحف والمجلات واحتدام الجدل بين التيار التقليدي للمدرسة الشعرية المتمثِّل في أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، والتيار المتجدِّد المتمثل في شعراء مدرسة "الديوان" التي ظهرت في الربع الأول من القرن العشرين على يد "عبّاس العقّاد وإبراهيم المازني وعبد الرحمن شكري" ومثّلت الحركة التجديدية فـي الشعر العربي على أساس مبدأ "الديوان في الأدب والنقد".

غير أن المباديء المهمّة التي قامت عليها مدرسة أبولو، هي تحرير الروح من القيود التي تحول دون انطلاقها إلى عالم الإبداع والتميُّز؛ لذلك كانوا يدعون باستمرار إلى تحرير الأدب بشكل عام، والشعر بشكل خاص من كل صيغ وقوالب المدارس التقليدية، والدعوة إلى التجديد في قواعد نظم الشعر، ومحاربة الجمود والتقليد الأعمى.. وكان "وضوح الهدف" من أهم المباديء التي قامت عليها مدرسة أبولو، وسعت جاهدة إلى تحقيقه وصمدت من أجله أمام أعتى التيارات المناهضة، حتى تمكّنت من تحقيقه والتأثير على البيئة الشعرية والتجديد فيها، سواء في مصر أو في محيطها الإقليمي.

كان الشعر في صدارة قضايا الخلاف والاختلاف في تلك الحقبة الفكرية النهضوية التي شهدت العديد من المعارك الثقافية وتأسّست عليها مناهج ومفاهيم نقدية كان لها التأثير الأهم في تطوُّر الأدب العربي في مجال القصّة والرواية كما في مجال الشعر الذي كانت له مغامرة التجديد قديماً وحديثاً.. وعلى الرغم من صدور مطبوعات ثقافية بطبعات أنيقة في نهايات القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين مثل مجلّة "الناقد" بجرأتها الثقافية وانفتاحها على مختلف القضايا الفكرية، إلّا أن الحقبة الزمنية التي صدرت خلالها مجلّات السؤال، مثل "أبولو" و"شعر"، كانت الأهم والأعمق فكرياً من أي مطبوعة أخرى خرجت من الأيديولوجية إلى العراء!