Atwasat

التنظيمات السرية في الجيش الليبي 1952- 1969 (4)

سالم الكبتي الأربعاء 31 يناير 2024, 05:40 مساء
سالم الكبتي

أن السعي الدؤوب لدى التشكيلات السرية العسكرية لتغيير النظام بالقوة ظل يترادف ومعزوفة تحرير فلسطين التي كانت تحتل المقام الأول والأهم لدى أولئك العسكريين قبل الإصلاح من الداخل. حجتان تلازمتا على الدوام للاتجاه المتواصل نحو قلب الأمور وتغيير الأوضاع. وعلى أي حال فإن نظرة إجمالية على هذه التشكيلات التي انتظمت داخل الجيش الليبي تكشف أنها لم تبتعد كثيرا عن هذا الشعار أو هذه المعزوفة. لم تكن نشازا عن أي نية في التغيير العسكري الذي يسود تفكير تنظيمات الجيوش العربية.

لقد نشأ، كما مر بنا، أول تنظيم عسكري سري ليبي خارج ليبيا. كان ذلك في جنبات الكلية العسكرية في بغداد. والذي استدعى القيام بذلك عامل رآه ذلك التنظيم مهما ومؤثرا في الشروع بتشكيله هناك. أممت قناة السويس في صيف 1956 وتم الاعتداء الثلاثي من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على بورسعيد في مصر في خريف ذلك العام. ألهب هذان الموضوعان مشاعر الطلاب الشباب واتجه بتفكيرهم نحو التغيير انطلاقا من هذا الاعتداء الذي وقع ثأرا أو ردا على تأميم القناة. الهدف هنا كان بالدرجة الأولى يتماهى ويتسق مع العاطفة القومية والشعور القومي الساخن الذي أجج الساحة العربية وملأها بالشعارات والنداءات المتكررة لتحرير المواطن العربي والقصاص من أعداء الأمة.

إضافة إلى الشعور الآخر الذي يغمر الصدور بضرورة تغيير الواقع السائد وأن يستبدل به نظام جديد يرتبط بتلك الشعارات ويسعى لتحقيقها وتوكيدها على الأرض. كان الإحساس هنا لدى التنظيم الأول قوميا وعروبيا ربما يسبق الاهتمام بإصلاح الداخل رغم أنه يتلازم وتحرير الأرض العربية المغتصبة، ولعل الخطاب بهذا الشكل كان المقصود به إثارة الاهتمام بعمله وسعيه لدى أقطار الأخوة العرب قبل الأخوة في ليبيا!!.

شكل هذا التنظيم داخل الكلية الطالب فوزي الدغيلي واستطاع أن يضم إليه بعض رفاق الدفعة الذين اقتنعوا بأهداف التنظيم وفكرته ومحاولة نشره داخل الجيش وربما خارجه. وكان من بين من التحق بهذا التنظيم بعد استمراره في التكوين عقب التخرج من الكلية في بغداد عام 1957 والعودة إلى البلاد مجموعة صاروا ضباطا في الجيش من نفس الدفعة وهم عمر شنشن ونصر الدين هامان وصالح السنوسي عبد السيد وجلال الدغيلي شقيق مؤسس التنظيم والطاهر الناجح وانضم إليه أخرون تخرجوا في مدرسة الزاوية العسكرية مثل بشير اليفرني والمكي بوزيد الذي تخرج من الكلية العسكرية في بغداد ضمن الدفعة الليبية الرابعة عام 1959 وسعد بعيو الذي تخرج من الدفعة الأولى في الكلية العسكرية في بنغازي وبعده بعام زميلاه خليل جعفر وعبد المطلوب عزوز. وبمرور الوقت سيشكل المكي بوزيد تنظيما سريا آخر سيعرف بتنظيم الرواد و يضم معه جعفر وعزوز وآخرين ثم سينسحب من التنظيم أيضا في فترة لاحقة جلال الدغيلي وصالح السنوسي وينصرفان إلى عملهما العسكري البحت في الغالب لعدم قناعتهما بالشكل الناصري والقومي الذي يغلب على هذا التنظيم. كانا يودان وفقا لرأيهما الخاص أن يهتم التنظيم بقضايا الوطن ويكون ليبيا صرفا يهتم بمشاكلها. ذلك ورد وفقا لرواية شفوية من جلال الدغيلي لي شخصيا في بنغازي يوم السابع من مايو 2007. وفي مرحلة تالية ستغمر الأخبار ليبيا بأن الرائد صالح السنوسي بعد تركه هذا التنظيم شكل تنظيما وحده. وهذا يدلنا على أن أعضاء رئيسيين في هذا التنظيم بعد أن تركوه فكروا بدورهم في تشكيل تنظيمات تخصهم مع آخرين. بدأت بذلك تتعدد التنظيمات داخل صفوف الجيش وإن لم تبد للأعين واضحة. وستنال بدورها من قوة التنظيم الأول ومتانته وانضمام الكثير من الضباط إليه. بمعنى أنه سيضعف أو يتراخى مع الأيام والشهور.

والواقع أنه بمرور تلك الأيام لوحظ تردد البعض من العسكريين أنفسهم أو شروعهم في تغيير فكرتهم أو منهجهم أو مراجعة ما يقومون به مع نظرائهم مؤكدين أن التغيير بالقوة لا داعي له وأن البلد في حالة استقرار ورخاء ولا تحتاج إلى هذه العملية الجراحية الخطيرة التي قد تورطها في مشاكل لا أول لها ولا آخر جراء هذا التغيير وربما يحدث ذلك تلقائيا مع مضي الزمن وتطور المفاهيم لدى الأجيال.

ومع ذلك ظل هذا التنظيم يوالي نشاطه رغم التداعي الذي حصل في صفوفه وجعل مجموعة من الضباط تنصرف عنه وتؤسس تشكيلات بديلة نتيجة لخلافات في وجهات النظر ولأن البعض رأى في قادة التنظيم أنهم لا يسعون بجدية على التغيير أو الإسراع في القيام به مع مرور الأيام. بدأ صبرهم ينفد وتغيرت فكرته عن التنظيم الأول وقادته وبحثوا عما يلبي حاجتهم في تشكيلات أخرى داخل الجيش.

كان هذا التنظيم أول تلك التنظيمات وسرت أخبار فيما بعد بأن بعض أعضاء جمعية عمر المختار لديهم علم بنية فوزي الدغيلي وزملائه في التغيير وربما شجعوه من وراء ستار فهم يعرفونه جيدا منذ أن كان ناشطا في الحراك السياسي لشباب الجمعية أواخر الأربعينيات وحتى إغلاقها صيف 1951 وخاصة جريدتها الوطن التي كانت الصوت المعبر عن الجمعية كل يوم ثلاثاء وهو من ضمن المجموعة التي تعمل في طبعها وإصدارها.

وبمضي الوقت لم يلاحظ على التنظيم أي نشاط داخل الجيش فقد قل حماسه ولم يتقدم بأي جديد نحو التغيير واستكمال تحقيق حلمه الذي بدأه في بغداد رغم أن بعض الأقوال ترجح بأن هذا التنظيم الذي عرف باسم تنظيم فوزي الدغيلي هو الذي أعد وكتب مجموعة من المنشورات السياسية ضد النظام الملكي صيف عام 1969 أثناء وجود الملك في الخارج منذ الثاني عشر من يونيو 1969. وتردد كثيرا بأن هذا التنظيم وزع تلك المنشورات بكثافة كبيرة في مدينتي طرابلس وبنغازي ووصلت إلى العديد من المسؤولين والمواطنين الذين لم يعرفوا من وراء كتابته أو نشره. وقيل أيضا أن الضابط عمر شنشن كتبها بخط يده ووزعت من قبل ضباط آخرين في زفاف عمر الشلحي المستشار الخاص للملك في مدينة البيضاء خلال شهر يوليو 1969.

إن الالتباسات التاريخية حيال هذه المنشورات في رأيي ظلت تحدث على الدوام لكن الحقيقة في أحيان كثيرة تغيب وتظهر فهناك منشورات مختلفة أشير إليها في تلك الفترة ويبدو أنها قد وقعت من عدة مصادر داخل الجيش أو خارجه. وربما وزعت في وقت واحد أو مناسبة واحدة لكن الجهات اختلفت وتباينت وكل منها أدعت أنها تخصها والواقع لا يؤيد هذا حتى الآن بصورة مؤكدة.

هنا أقول بأن هذا التنظيم قد يكون شارك بكتابة وتوزيع هذه المنشورات لكنها تختلف اختلافا كليا عن المنشورات الأخرى التي وزعت بشكل كثيف أيضا في مناسبة الزفاف ذاتها داخل مدينة البيضاء والتي أشارت في ثنايا سطورها إلى الفساد الواضح داخل البلاد وفي أوساط الجيش وأن الوضع يحتاج إلى إبليس.. ولا إدريس. لقد قام بذلك مجموعة أخرى ليست من تنظيم فوزي الدغيلي الذي حسبت المنشورات المنتشرة كلها عليه.. دون وجه حق!!